إعلان بيروت للحريات الدينية

وثائق روحية
23 حزيران 2015

تضربُ لبنانَ والبلادّ العربية، وبقاعَ العالَم الإسلامي، حالةٌ من الغّلّيان والثَوَران باسم الدين والمذهب والطائفة، تقتل الإنسان، وتُشرِّدُهُ من دياره، وتُنكر عليه كرامةَ إنسانيته، وأصول مواطنته وعَيشِه وحرياته.
    إن هذه الحالة الشاذة التي تضعُ الدين في مواضع الاستغلال لأهدافٍ سياسية واستراتيجية وعبثية مدمّرة للإنسان والبلدان والعمران، و التي تتسبب في تصاعد موجات الإسلاموفوبيا في سائر أنحاء العالم، فضلاً عن تهديد عيشنا المشترك، ومواريث حضارتِنا، ومستقبلِ أجيالِنا الشابة، استدعت مبادراتٍ عربية وإسلامية كثيرة للمواجهة والتصدي والتحرير والتصحيح ونبذ العنف باسم الدين، في لبنان والبلدان العربية الأُخرى، ومن الجهات الدينية والمدنية، والثقافية ، والعامة.
    إن جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، التزاماً منها برسالتها التربوية والاسلامية والوطنية في نشر ثقافة الإسلام الوسطي المعتدل والمتنوِّر والمتسامح؛ 
وحرصاً منها على بناء صرح العيش الوطني المشترك الحُرّ والمدني والمتطوِّر؛ ومواجهة الأخطار التي تتهدد الوطنَ والمُواطن والأمة والدينَ والأخلاق؛
وجدت أنه من واجبها ومسؤوليتها الإسلامية والعربية والوطنية التصدّي لظاهرة التطرف والعنف بإصدار «إعلان بيروت للحريات الدينية» تثبيتاً للميراث الذي ائتُمنت عليه وقامت على أساسه، ورعايةً لعهود بيروت ولبنان الإنسانية المستنيرة، والتزاماً بكرامة المُواطن والإنسان، واستنقاذاً للدين ممن يحاولون اختطافه تحت شعارات مزيفة.
أولاً : حرية العقيدة والعبادة والتعليم. إن الإيمان الديني اختيار حر ، وقرار حر للإنسان نفسه، وهو بما يترتب عليه من حريات في العبادة والتعليم والتربية حق من حقوق الإنسان والمواطن، تكفله النصوص القرآنية القطعية الدلالة: {لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي} (البقرة: 256)، و {فذكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمصيطر} (الغاشية: 21-22). وعلى مدى أكثر من ألف وثلاثمائة عام، ظلت ديارنا عامرةً بالمساجد والكنائس والمعابد جنباً إلى جنب، شأن الحياة الاجتماعية الواحدة. ونحن نريد أن يبقى ميراث الحرية والتضامن والعيش المشترك هذا زاهراً ومزدهراً على أرضنا وفي مدننا وبين شبابنا، كما يقتضيه الدين، وتقتضيه تقاليد الوطن والأمة وحقوق المواطنة ومواثيقها وعهودها.
إن انتهاك حقوق الجماعات المسيحية في ممارسة حرياتها الدينية وفي إعلاء رعاية شؤون كنائسها وأديرتها ومؤسساتها التعليمية والاجتماعية، هو انتهاك لحقوق الانسان، وانتهاك لحقوق المواطنة . وفوق ذلك هو انتهاك لتعاليم الاسلام الذي تُرتكب هذه الانتهاكات باسمه.
ولذلك ؛ فإننا نرفع الصوت عالياً من منطلقات إسلامية وانسانية ووطنية ضد هذه الممارسات التخريبية، داعين أهلنا وأحبتنا ، مسيحيي الشرق، إلى عدم الإذعان إلى الإرهاب التهجيري، والتمسك بأوطانهم والتجذر فيها، مواطنين كراماً لهم ما للمسلمين من حقوق، وعليهم ما على المسلمين من واجبات، للمحافظة على قيم العيش الواحد والمتساوي  والمتساند في مجتمعاتنا التعددية .
إن ثقافتنا الإيمانية تدعونا إلى نبذ الإكراه والى احترام حرية الضمير والى تقبل الاختلافات بين الناس على أنها تعبير عن الإرادة الإلهية.. فللّه وحده سبحانه وتعالى، سلطة الحكم على ما في قلوب الناس وعلى ما كانوا فيه يختلفون.
ثانياً : الحقُّ في الحُرمة والكرامة: وهو حق تُثبتُهُ النصوص الدينيةُ القطعية الدلالة أيضاً { ولقد كرَّمْنا بني أدَم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلا} (الإسراء: 70). إن الانسان مكرّم لذاته الانسانية. وأساس هذه الكرامة عقلُهُ وحريتُه في اختيار الاعتقاد والرأي والتعبير، ومسؤوليته أمام الله وحده عن هذا الاختيار. وللانسان الحقُ في صَون هذه الحرية من جانب السلطات، ومن جانب الآخرين. فلا حقَّ لأحدٍ في الحكم على اعتقاد الناس، ولا في الاضطهاد أو التمييز على أساسٍ ديني أو إثني، يقول الله تعالى:{ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلامَ لستً مؤمنا، تبتغون عَرَضَ الحياة الدنيا} (النساء: 94)، فكلكم لآدم، وآدم من تُراب، كما قال رسول الله صلوات الله وسلامُهُ عليه في خطبته في حجة الوداع. وقال: "الناسُ سواسيةٌ كأسنان المِشْط فلا تفضيل ولا تمييز ولا إرهاقَ ولا إكراه". وقد حدَّد القرآن الكريمُ سببين وحيدين للحرب الدفاعية، هما: الاضطهادُ في الدين، والإخراجُ من الديار: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتُقسطوا إليهم. إن الله يحبُّ المقسطين} (الممتحنة: 8). فليس من حق أحدٍ في نظر القرآن أن يشنَّ حرباً على إنسان أو جماعة من الناس بسبب الدين ، لإخراجهم من ديارهم، استعماراً أو إحتلالاً أو إلغاءً. إنّ علينا النضال معاً من أجل صون الحريات الدينية والحريات الوطنية، واحترام الكرامة الإنسانية وحماية العيش المشترك بالبر والقسط.
ثالثاً : الحقُّ في الاختلاف، والحقُّ في التعدَّد: يقول الله سبحانه وتعالى: { يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتَعارْفوا. إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات: 13) فالاختلافُ والتعدد طبيعةٌ إنسانيةٌ واجتماعيةُ من جهة، واختياراتٌ فرديةٌ و جَماعيةٌ أو مجتمعيةٌ من جهة ثانية. والتعارُف والاعتراف هو أمر الله سبحانه وتعالى، وهو الاستجابةُ الملائمةُ لإنسانية الإنسان، وعيشه في المجتمعات، ومع العالم. وما كانت مجتمعاتُ المسلمين في أي زمن من الأزمنة مجتمعاتٍ أوحديةً في الرأي أو في طرائق العيش، وهي لم تكن أوحدية في الدين أيضاً.
رابعاً: الحقُّ في المشاركة السياسية والمجتمعية: وهي مشاركة تقوم على أساس المساواة والحرية والاختيار الحر والمسؤولية الفردية. فان الاسلام كما ذكرت وثيقة الأزهر الشريف لا يفرضُ نظاماً معيناً للحكم، ولا يعرف الدولة الدينية الكهنوتية . إن النظام السياسي هو نظامٌ للحكم المَدَني، يُنشئُهُ المواطنون أنفسهم بأنفسهم مسلمين وغير مسلمين، التزاماً بحقوق المواطنة وواجباتها، وهم يطوّرونه بحسب إراداتهم الحرة، واستجابة لمصالحهم المشتركة. ولذا فإن اعتبار هذا النظام السياسي أو ذاك مقدساً أو معصوماً أو ركناً من أركان الدين، فيه سوء فهم للدين وتشويه له، وفرضٌ له على الناس بدون حق سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين. فهم جميعاً في عقد وذمة الدولة الوطنية التي يصنعونها معاً، ويخضعون لدستورها وقوانينها التي تساوي بينهم في الحقوق والواجبات.
خامساً: التزامنا بالمواثيق العربية والعالمية: لقد أقامت أمّتنا حضارةً زاهرةً وتعدديةً منفتحة، وقعت في أساس تقدم العالم، وشاركت شعوبُنا في حضارة العصر،  وأنشأت أنظمةً ودولاً وطنيةً ومؤسَّسات لم يَحُلْ دون إنشائها الدينُ أو الموروث. والارتدادُ عليها بحجة استعادة الشرعية المفقودة، فيه تنكُّرٌ لثوابت الدين، ولنضالات شعوبنا من أجل الكرامة والحرية والمشاركة في تقدّمنا وفي تقدّم العالم وحضارته وأمنه. ونحن ملتزمون بميثاق الأمم المتحدة، وبالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وبالمواثيق والإعلانات الأخرى. وهناك إعلانٌ عربيٌّ لحقوق الإنسان، وإعلاناتٌ إسلاميةٌ كثيرةٌ بنفس المعنى والتوجُّه، وآخرها إعلان الأزهر الشريف للحريات الأساسية الأربع. نحن جزءٌ من العالم، ونطمح لمشاركة أقوى فيه. لا نريد أن نخاف العالم، ولا أن نخيفهُ، لا نريد أن نفصله عنا، ولا أن ننفصِلَ عنه. المسلمون خُمسُ سكّان العالم، وثلثهم يعيش في دول ومجتمعات غير إسلامية.
سادساً: الالتزام بلبنان الوطن والدولة، موحداً وديموقراطياً: على أساس هذه القيم في الحرية والاختيار والتعاقد والعيش المشترك، تطورت الصيغة اللبنانية إلى نظامٍ توافقي تتوافرُ فيه الحريات الأساسية، ويزدهرُ فيه الفرد. ورغم أن الصيغة تشكو من نواقص كثيرةٍ، لكنها رغم كل شيءٍ تظلُ مفتوحة الأُفق على التحسين والتطوير. إنّ الحريات الدينية والسياسية في لبنان هما أساس هذا العيش المشترك الذي يعكس إرادة اللبنانيين وقرارهم. وقد أسهم مفكرو المسلمين اللبنانيين وأكثرهم من متخرجي المقاصد، في الثقافة الحرة، وفي الفكر الإسلامي والإنساني المتنور. وشاركوا إلى جانب اللبنانيين الآخرين في الميثاق الوطني، وفي اتفاق الطائف، وسطّروا وثيقة الثوابت العشر الصادرة عن دار الفتوى في العام 1983،وهي وثيقةٌ تقدّم اعتبارات المواطنة والحكم المدني والعيش المشترك، والالتزام بالحريات الأساسية، وباستقلال لبنان وسيادته، وطناً  نهائياً لسائر بنيه. إننا نطمح ونريد للبنان الوطن والدولة أن يبقى وأن يعود قوياً بوحدته وديمقراطياً بنظامه، صائناً للحريات والحقوق لسائر مواطنيه، وناشراً لثقافة الحرية واحترام التعدد في سائر أنحاء العالم العربي الذي يعاني اليوم من التعصب والتطرف والقتل باسم الدين، ومن التهجير من الديار، وتجاهل قواعد العيش المشترك وإنسانية الإنسان.
سابعاً: التزام المقاصد بثوابتها وبدورها: إن جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت باقيةٌ على تقاليدها التي أرسى قواعدها الآباء المؤسسون قبل 137 عاماً والمتمثلة في حرية التعليم وتقدمه، وفي استنارة الدرْس الديني، والتربية الدينية. لقد تلقت أجيالنا التربية الإسلامية على أيدي كبار العلماء من لبنان والعالم العربي. وستعمل الجمعية على استعادة هذا التقليد، وعلى تجديد البرامج  بالتعاون مع دار الفتوى، وعلى الإفادة من التجارب الوطنية والحديثة في التربية الوطنية والمدنية. كانت المقاصد مدرسة للإسلام السمح وللوطنية الجامعة، وستبقى كذلك إن شاء الله.
* * *
إن بيروتَ أمُّ القوانين. وبيروت بيئةُ الحرية والإبداع. وكما أسهمت إسهاماً رئيسياً في صُنْع الدولة الحديثة والتقدم والحريات، تحرص على أن تظلَّ بمسيحييها ومسلميها، وجمعية المقاصد معها وفيها، وفي هذا الزمن الصعب على العرب وعلى اللبنانيين، منارةً من منارات الإشعاع الإسلامي والنهوض العربي، والسلام الإنساني.

عاشت بيروت. عاشت المقاصد. عاش لبنان.