النداء الرابع للمطارنة الموارنة

وثائق روحية
3 أيلول 2003

يوم الاربعاء الثالث من ايلول سنة 2003 اجتمع اصحاب السيادة المطارنة الموارنة في الديمان برئاسة صاحب الغبطة والنيافة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، وتباحثوا في شؤون كنسية ووطنية، وفي ختام الاجتماع اصدروا النداء الآتي: قبل عام في مثل هذا التاريخ تقريبا، اصدرنا نداء اعربنا فيه عما يساور اللبنانيين من هواجس ومخاوف، وما يعانون من "سياسة فرّق تسد"، وما يتجاذبهم من وعود ووعيد في ما يتعلّق بفساد الادارة، واهدار المال العام، ودخول السياسة على القضاء. واذا راجعنا ما كان على الساحة اللبنانية من احداث نرى ان الامور، بدل ان تتحسن، اذ بها تتدهور، وتسير من سيئ الى اسوأ، بشهادة رجال مسؤولين تولّوا شؤون الدولة، فوصفوها بأنها غير موجودة، ودانوا فيها استشراء الفساد وغياب الاستقامة والنظافة والامانة والمحاسبة. وهذا ما استوجب اطلاق هذا النداء الرابع، لعل من في يدهم امر الحل والربط يعمدون الى اتخاذ التدابير الكفيلة ووضع حدّ للمأساة اللبنانية.

 

1 - فساد الادارة والاهمال

منذ زمن والناس يتحدثون عن فساد الادارة. وبعض الموظفين القيّمين على اموال الدولة يتواطأون مع المواطن ليحرموا الدولة ما يعود اليها، على ان يتقاضى اولئك على كل معاملة ما يظنّونه حقا لهم، فهم يثرون وهي تفتقر. وكانت محاولات عديدة لاصلاح الحال، باءت كلها حتى اليوم بالفشل، فعسى ان تنجح هذه المرة، ولكن الامثلة على ذلك كثيرة، منها:

- قضية الكهرباء وما يهدر فيها من اموال عامة تذهب ثمن سمسرات على مشتريات يتقاضى عليها القيمون عمولات، فضلا عن تمنع المشتركين في التيار، في مناطق مختلفة، عن دفع بدل اشتراكهم وحتى في ادارات الدولة.

- قضية الصناديق الخاصة التي تهدر فيها الاموال دون حساب وبينها صندوق المهجرين الذي كلّف الدولة مبالغ طائلة، ولم يعد بعد جميع المهجرين الى بلداتهم وقراهم نهائيا.

- قضية ايجاد سوق لتصدير الفاكهة، ودعم الزراعة على وجه الاجمال، والمزارعون يشكون عدم تصريف نتاج ارضهم ولا يزال بعضه في البرّاد. ومعلوم ان الدولة تستورد اكثر بكثير مما تصدّر. فهل يستحيل عليها ان تضع التصدير شرطا للاستيراد؟

- قضية البحص التي اخذت حجما كبيرا من الاتهامات، حتى قيل لم لا تستورد من اليونان، وهي تستورد من سوريا، ويبدو ان النوعية غير صالحة، كأن لبنان بلد سهول شاسعة، وليس فيه حجار.

- قضية الحافلات التي سمح للكبيرة منها بالسير على المازوت، ومنع ذلك على المتوسط منها، وكم شكا سائقو هذه ما لحق بهم من اجحاف.

- قضية الضرائب المتصاعدة التي ترهق الجميع على السواء، فيما الانصاف يقضي بتحميل كل من المواطنين منها ما يتناسب ومداخيله وثروته.

 

2 - الوضع المتدهور

اقتصاديا، الديون الباهظة التي ترهق كاهل المواطنين، وقد بلغت ما يقارب خمسة وثلاثين مليار دولار اميركي، والدولة لا تزال تستدين دون ان تحاول ان تدفع بعض الفوائد التي تبلغ كل سنة نحو ثلاثة مليارات.

اجتماعيا، البطالة المنتشرة بكثافة والتي تحمل الشباب على الهجرة، وجلهم من حملة الشهادات الجامعية العليا الذين يضطرون الى الهجرة تحقيقا لآمالهم في الانتاج واعداد ما يطمحون اليه من مستقبل زاهر.

ماليا، ما حدث في بنك المدينة يدل على ان الوضع المصرفي، رغم كل الاحتياطات التي اخذت على هذا الصعيد، ليس في مأمن تام.

سياسيا، التجاذب القائم على صعيد اهل الحكم، يشلّ النشاط الحكومي، وينقلب احيانا صراعا طائفيا عن سابق قصد وتصميم، ويوقع المواطنين في حيرة، تحمل بعض الناس على الاعتقاد ان اللبنانيين غير جديرين بأن يحكموا ذاتهم بذاتهم.

امنيا، السرقات تتكاثر في كل المناطق، وبات الفاعلون يدخلون البيوت ويأخذون منها ما تقع عليه ايديهم، وقلما ترد الى اصحابها. وحتى الآن لم يكشف النقاب عن الجرائم التي ارتكبت واودت بحياة هذا او ذاك من المواطنين، وبينهم من كانت لهم مراكز مرموقة في الدولة اللبنانية والقضاء والمجتمع.

وطنيا، منذ زمن واللبنانيون يطالبون بوضع قانون انتخاب يتيح للمواطنين اختيار من يمثّلونهم في الواقع تحت قبة الندوة اللبنانية، وقد تعوّدت الدولة ان تعمد الى سن قانون قبل الانتخابات العامة ببضعة اسابيع بحيث يتعذر على اهل الرأي ان يبدوا رأيهم في هذا القانون. وهذا منطق غير سليم ولا مستساغ.

 

3 - لماذا؟

ونتساءل لماذا وصلنا الى ما وصلنا اليه من سوء حال؟

1 - ضعف الشعور الوطني خصوصا لدى من يغلّبون مصالحهم الخاصة الضيقة على المصلحة الوطنية العامة، واللجوء الى اساليب ملتوية، والاستقواء بغير اللبنانيين حصولا على مقعد او وظيفة، او استظهاراً على خصم.

2 - تفكّك الاحزاب والروابط الاهلية، ارضاء لغايات في نفس بعض البارزين فيها، او طمعا بالحصول على بعض فوائد سواء اكانت معنوية ام مادية.

3 - ظهور بعض العصبيات لدى الشباب، مما يسبب جوا من التشنج ينذر بعودة الى ما كان ابان الحروب اللبنانية، وما من احد يريد لها عودة، ومعظم الناس يتوقون الى الطمأنينة النفسية والسلام.

4 - شعور بعض المواطنين بأنهم غير مرغوب فيهم في وطنهم، فيقصون عن الوظائف العامة، ويلاحقون لدى اقل محاولة منهم للتعبير عن رأيهم، وتسخير القضاء لهذا الغرض، وهذا مؤذ له ولجميع المواطنين.

5 - تجاهل اتفاق الطائف في الكثير من بنوده التي لم تطبق، او طبقت انتقائيا، وهذا ما اوجد هذا الجو الذي يجعل المواطنين يتساءلون على اي قاعدة ووفق اي نظام يحكمهم اهل الحكم.

6 - الاستخفاف بالقيم الانسانية والدينية، والانسياق وراء الربح المادي، سواء اكان حراما ام حلالا، وهذا يعتبر تحللا اخلاقيا اذا استشرى اودى بالوطن وابنائه.

7 - نبذ الاعمال الوضيعة التي يأنف منها بعض الشبان والشابات في وطنهم، ويضطرون الى مزاولتها في بلدان هجرتهم. والوطن كالافراد يمرّ بحالات حينا صعبة وحينا مريحة، فعلى المواطنين، وبخاصة الشبان من بينهم الا يفقدوا الامل بوطنهم ايام الضيق، وعليهم ان يساعدوه على تذليل ما يعترضه من صعوبات بمواكبتهم اياه في جميع احواله.

 

4 - السيادة والاستقلال

ان ما يفتقر اليه لبنان تحمل مسؤولياته بذاته. وهذا ما يحرمه ما يعود عليه بالخير والفائدة وعلى جميع جيرانه من البلدان العربية، وخصوصا سوريا التي تربطها به روابط تاريخية وجغرافية وثيقة. غير ان حق الجوار والمودة يقضي بأن يحترم الجار جاره في مصالحه وخصائصه، ويظل على اوثق رابطة مودة به. ولا يرضى احد، اذا كان سليم العقل، بأن يبقى تحت الوصاية ما دام على قيد الحياة. وبعد ما اصدق المثل القائل: "صاحب البيت ادرى بالذي فيه". وهذه الوصاية المستمرة منذ سبعة وعشرين عاما اشعرت اللبنانيين بأنهم غير مؤهلين للنهوض بمسؤولياتهم. وهذا يلحق ضررا كبيرا بلبنان وسوريا. ولا حاجة الى القول ان لبنان يذوب في المهاجر شيئا فشيئا، ويفقد رويدا مقوماته، ويستحيل على شعبه ان يسائل احدا من مسؤوليه، وغياب المسؤولية والمحاسبة يؤدي به الى الزوال، ونود الا يقال يوما ان زواله تسبب به له اقرب الناس اليه.

 

5 - مجال التفاؤل

رغم كل ما قدّمنا، اذا القينا نظرة على ماحولنا، نرى ان وضع وطننا لبنان، لا يزال مبعث امل لنا ولسوانا. فهو بالنسبة الى محيطه لا يزال ينعم نسبيا بالامن والسلام. ومجمل اللبنانيين اذا تركوا على سجيتهم ولم يفرّق بينهم مفرّق، يريدون ان يعيشوا معا كما عاش آباؤهم واجدادهم في جوّ من التعاون والمحبة والكرامة.

اننا ندرك ان ثمة عقبات كثيرة يجب تذليلها ليصبح المبتغى ميسورا، ولكن النية الصادقة، والهمة العالية، والصراحة التامة مع الذات والغير، تفسح في المجال لتذليل كل صعب، وتقويم كل اعوجاج، وتحقيق كل الاماني. وعلى الله الاتكال".