البيان التأسيسي "للمنبر الديمقراطي" 16 أيار 2001

وثائق لبنانية
16 ايار 2001

بعيداً عن لغة التهويل والعصبية.

ورفضاً لمنطق المصادرة والتحريم في شؤون الوطن.

وبعيداً عن ادعاء النطق باسم المواطنين كافة..

وتحسساً، مع الآخرين، بخطورة المآل الذي آل إليه الوضع في لبنان.

وإسهاماً ، في البحث عن خطاب جامع ، ندلي برأي في شأن هذا الوضع الذي يتهدَّد مصيرنا جميعاً دون استثناء…

وأملاً في أن يُسمع هذا الرأي كمجرد مقاربة نطمح أن تقدِّم بعض الأجوبة عن أسئلة الواقع اللبناني المأزوم.

 

نحن المواطنين اللبنانيين ، الموقعين أدناه ، نعلن إيماننا العميق بلبنان ، وطناً نهائياً راسخاً في ضمير كل واحد منّا، وفي إرادته الحرة حيث يكوِّن هذا الإيمان بعداً بنيوياً في هوية الفرد اللبناني ، ورافداً أساسياً في تشكله الاجتماعي والثقافي والسياسي.

 

إنَّ تمسُّك اللبنانيين جميعاً دون استثناء ببقاء لبنان واستمراره دولة سيدةً مستقلةً، إنَّما يعبِّر عن انتمائهم الحضاري إلى العروبة، واقعاً واختياراً، ويشكِّل مدخلاً لمساهمتهم الرائدة في تكوين معناها. كما ينتج لبنان في واقعه التعددي ومرتجاه الديمقراطي وانتمائه العربي مساهمة أبنائه الكبرى في الصراع العربي ضد الصهيونية فكراً وممارسة ، ومشروعاً عنصرياً استيطانياً، وذلك من حيث أنَّ لبنان ، في واقعه ومرتجاه، يمثِّل رداً منجزاً على كل انغلاق ورفض للآخر وإلحاق الظلم به وصولاً إلى إلغائه. لبنان بهذا المعنى ، التعددي الديمقراطي العربي، يعطي الشهادة النابضة عن صدق الموقف وروح المسؤولية وعن عمق الأصالة والانفتاح على العصر.

 

إنَّ معنى لبنان ، الجمهورية المستقلة ، لا يكتمل إلاَّ بتمتعه بالسيادة الوطنية الكاملة على أرضه وشعبه، تمارسها دولة عادلة، كفية، حرة، تتبنَّى الديمقراطية وتمارسها عملياً، وتنهض على تجربة حيَّة، منبثقة من واقع اللبنانيين ، الذين عرفوا دوماً، برغم التجارب والصعاب ، أن يحافظوا على وحدة هويتهم ودولتهم من ضمن تعدد الانتماءات الدينية والإيديولوجية والسياسية وتنوُّع خصائصهم الثقافية.

 

وبما أنَّ لبنان وطن لجميع أبنائه دون استثناء أو تمايز، فهم مطالبون ، اليوم ، بالحرص الشديد عليه وبالتعلُّق به دون تعصُّب ، والمحافظة عليه دون انغلاق ، في عالمٍ تعصف فيه رياح العولمة الجديدة الرامية إلى اجتياح حدود القوميات وتطويع الخصوصيات من جهة وإلى تجديد المفاهيم وتطوير وسائل الحياة من جهة ثانية.

 

وبما أنَّ لبنان مثل حي ومثال مرتجى لحوار الحضارات وتفاعل الثقافات فهو، في المثل والمثال، يصدر عن قلب الحضارة العربية، وينفتح على الثقافة الإنسانية ويسعى إلى استيعاب منجزات الحداثة ، محافظاً على تراث المشرق العربي في تنوعه وغناه. إنَّ خيار اللبنانيين وقدرهم في أن يعيشوا في وطن واحد بنمط حياة يشكِّل حركتهم الاجتماعية والسياسية، ويرسم خطوط مصيرهم، ويجمع بين ينابيعهم الثقافية ويعزِّز قدراتهم لبناء الحاضر ويثري تطلعاتهم نحو المستقبل.

 

وفي ضوء التجارب فإنَّ الاستقواء بالخارج، لأي سبب كان ، من شأنه أن يفسد نمط الحياة هذا بين اللبنانيين، ويفقد الدولة اللبنانية جوهرها بما هي تجسيد شرعي وقانوني لوحدة اللبنانيين .

 

فإذا كان الوفاق الوطني هو المدخل إلى استعادة الدولة سلطتها على لبنان بكامله وعلى أهله جميعاً، فإنَّ إعاقة إنجاز المصالحة الوطنيـة ، وعدم تحقيق التمثيل الصحيح في السلطة على المستويين التشريعي والإجرائي ، قـد أفضيا إلى وضع البلاد على حافة الخطر المصيري ، لأنَّ إحدى ميزات اللبنانيين في بيئتهم العربية هي تعلقهم الشديد بالحرية وتمسكهم بمبدأ تداول السلطة في اختيار حكامهم ما يجعل هذا الأمر رسالة لبنان الديمقراطية إلى محيطه.

 

ولعلَّ من أبرز ظواهر الأزمة الوطنية الراهنة يكمن في تراجع منطق الاعتدال بسبب طغيان النزعة المتطرِّفة على الخطاب السياسي لبعض القوى المكوِّنة للاجتماع السياسي اللبناني وهذا ما أدّى، ويؤدي، إلى تأجيج العصبيات الفئوية والطائفية طلباً للأمان أو طمعاً بامتياز أو تأثراً بالخارج…

 

لقد انخرط اللبنانيون في معركة التحرير من الاحتلال الإسرائيلي وضربوا مثلاً يُحتذى ، بمقاومتهم وصمودهم، في إحراز النصر، برغم التفاوت الهائل في ميزان القوى ، ولكن السلطة اللبنانية ، لم تستثمر هذا الحدث التاريخي متخلية عن مسؤولياتها تجاه الجنوب بعد تحريره ، فتُرك ، نتيجةً لغياب مختلف مؤسسات الدولة ولعدم انتشار الجيش في ربوعه ، مرتعاً للبؤس وخيبة الأمل وللفراغ الأمني المفتوح على تصعيد من شأنه إعادة ضخ العامل الإسرائيلي في المعادلة اللبنانية بما يسيء إلى مأثرة التحرير ونضالات اللبنانيين وتضحياتهم خصوصاً أبناء الجنوب في ملحمة صمودهم ومقاومتهم الطويلة.

 

وها قد شاهدنا ، في الأيام الأخيرة ، عدواناً إسرائيلياً جديداً على لبنان في صورة انتهاك فظ لسيادته وأمنه واعتداء آثم على موقع للقوات العربية السورية المرابطة في أرضنا. كما تبلغنا ، في أعقاب ذلك ، من كبار المسؤولين بأنَّهم قد تعرَّضوا لمساومة من الخارج تدعوهم إلى القبول بصفقة مقايضة نعتبرها إثماً وطنياً صارخاً وطعناً دامياً في صميم السيادة. من هنا يتعاظم الشعور لدينا جميعاً بالمسؤولية الوطنية في مواجهة العدوان سواء المباشر منه أو غير المباشر عبر أي عرض مساومة يتهدَّد سيادتنا ويمس قيمنا الوطنية.

 

أما على الصعيد الاقتصادي ـ الاجتماعي فقد فشلت كل محاولات السلطة الرامية إلى حل الأزمة الاقتصادية ـ الاجتماعية ، في معزل عن معالجة مسبباتها السياسية ، وباعتماد نهج فاسد استولد ركوداً اقتصادياً وانخفاضاً في وتيرة الإنتاج واستدانةً جامحة وعجزاً في الموازنة وتمركزاً متزايداً في الدخل الوطني وانخفاضاً في مستوى المعيشة وانحساراً في نوعية الخدمات الاجتماعية إضافة إلى تفشِّي البطالة واتساع نطاق الهجرة والتضخُّم في حجم العمالة غير اللبنانية.

 

لذلك لم يسترجع المجتمع اللبناني حيويته وقدرته على المبادرة وإنتاج فرص العمل والتنمية والازدهار.والسبب الرئيسي لقصور السلطة وتقصيرها ، على هذا الصعيد ، هو في تنازلها عن قرارها المستقل وتغليب المصالح الخاصة والفئوية لديها على المصلحة العامة وما ترتب عن ذلك كله من تفريط بالمصالح الاقتصادية للشعب اللبناني وباستقراره الاجتماعي، في ظل غياب القدرة على مراقبة السلطة ومحاسبتها عبر المؤسسات الدستورية.

 

إزاء كل ذلك يرى الموقعون أدناه أنَّ بداية الحل تكمن في إعادة إمساك اللبنانيين بمصيرهم الوطني ، وذلك باتحادهم رأياً موحداً ويداً واحدة على ما يلي:

 

1 ـ الضغط على السلطة اللبنانية من أجل أن تنكبَّ ، فوراً، على ملف القضية الوطنية، اضطلاعاً بمسؤليتها الأساسية، بهدف اجتراح تسوية تاريخية بين اللبنانيين كافة، آخذة بعين الاعتبار اتفاق الطائف ، ترمي هذه التسوية إلى تحقيق الوفاق الوطني ثمرة حوار ديمقراطي يجري بين الأطراف اللبنانية كلها دون استثناء وترمي إلى إنجاز مشروع الدولة الديمقراطية القائمة على القانون والمؤسسات وفصل السلطات. يتعيَّن على هذه الدولة أن تتولى ، وحدها ، النهوض بمسؤولية الأمن الوطني في لبنان بكامله بدءاً من حدوده الجنوبية وأن تتصدى لمعالجة الأزمة الاقتصادية ـ الاجتماعية الموشكة على الانفجار.. كما يتعيَّن عليها أن تبادر إلى اجتراح تسوية تاريخية مع الدولة السورية ترمي إلى إرسـاء العلاقات اللبنانية السورية على قواعد الندِّية والتكافؤ واحترام السيادة ومراعاة مصالح كل طرف على شتى الصعد وبخاصة على الصعيد السياسي والاقتصادي والأمني.

 

2 ـ العمل من أجل ترجمة فورية لنتائج هذا الحوار في إقامة حكومة وفاق وطني تضطلع بهذه المسؤولية الآنفة الذكر وتضع في ضوئها ، برنامج إنقاذ وطني يشتمل على السياسي والاقتصادي ـ الاجتماعي والتنموي والتربوي والبيئي.. كما تضع مشروع قانون انتخابي جديد وتشرف على العملية الانتخابية التي تجري على أساسه.

 

3 ـ مواصلة الضغط على السلطة من أجل عودة مؤسسات الدولة بالكامل إلى الجنوب المحرر وفيها مؤسسة الجيش تجسيداً لاستعادة الدولة لمرجعياتها الخدماتية والاقتصادية والاجتماعية والإعمارية والتنموية فضلاً عن مرجعيتها الأمنية، ثم تجسيداً لعودة الجنوب إلى رحاب الوطن جزءاً لا يتجزَّأ منه. على أن يتواصل العمل الوطني لاستعادة آخر حبة عزيزة من تراب الوطن وإطلاق سراح معتقلينا كافة.

 

4 ـ مطالبة السلطة اللبنانية بدعوة الجامعة العربية لوضع خطة استراتيجية موحدة للصراع العربي ـ الإسرائيلي، تتحدَّد فيها مسؤولية كل بلد عربي بدقة في إطار المسؤولية القومية العامة .. وتأسيساً على ذلك يقوم لبنان بواجبه على ساحة هذا الصراع بالتنسيق والتعاون مع بقية الدول العربية وتحديداً مع الدولة السورية التزاماً بموجبات هذه الخطة المشتركة على أن تُراعى قدرات لبنان فلا يُلقى عليه، بمفرده، عبء هذه المسؤولية القومية.

 

5 ـ وضع السلطة اللبنانية أمام مسؤوليتها الوطنية في شأن دعوة السلطة السورية إلى إجراء حوار صريح ومسؤول بينهما يتناول ، كبند أساسي من بنود التسوية، موضوع إعادة انتشار القوات العربية السورية وتمركزها في الأراضي اللبنانية تطبيقاً أميناً لاتفاق الطائف وضمن إطار الحرص الشديد على أفضل علاقات الأخوة بين لبنان وسورية، وعلى تحسين شروط مواجهة العدوان الإسرائيلي ، والمحافظة على ما بين البلدين من إرثٍ عريق وروابط تاريخية، وما بين شعبيهما من وشائج القربى والصداقة كما يتناول الحوار ، أيضاً، موضوع تعديل الاتفاقات ولواحقها غير المتوازنة المعقودة بين الدولتين بما يحقِّق مصالحهما المشتركة.

 

6 ـ تحذير السلطة اللبنانية من مغبَّة تحويل لبنان إلى "دولة أمنية" تُغيَّب فيها الديمقراطية وتُنتهك حقوق الإنسان ، ودعوتها إلى الإقلاع عن انتهاك الحريات العامة والخاصة التي كفلها الدستور سواء بالترويع أو القمع أو منع التجمع والتظاهر أو ملاحقة أهل الرأي والمعبِّرين عنه بشتى الصور، والاستنساب في تطبيق القوانين وتجاوز الأصول .

 

7 ـ التأكيد في الشأن الاقتصادي ـ الاجتماعي على اعتماد نهج آخر في معالجة الأزمة الاقتصادية الحادة والمعضلة الاجتماعية المستفحلة، نهج يقوم على أساس الإصلاح السياسي أولاً ثم إصلاح الإدارة العامة ودعم استقلالية القضاء ويرمي إلى ضبط تفاقم الدين العام وتحسين وضعية الخزينة العامة، وتفعيل الإنتاج ، الصناعي والزراعي خصوصاً، وتشجيع التصدير وحل مسألة توزيع الدخل الوطني وتأمين فرص عمل تقليصاً للبطالة ووقفاً لسيل الهجرة مع توفير الخدمات الاجتماعية تحقيقاً لوظيفة الدولة الراعية ، واستثمار الثروة البشرية و قيمة العلم كعامل إنتاج للثروة الاجتماعية وتحقيق الازدهار.. وذلك بتحديث النظام التربوي العام وتعزيز المدرسة الرسمية والجامعة اللبنانية واحترام استقلاليتها.

ولأداء هذه الوظيفة بنجاح يتعيَّن على الحكومة أن تضع سلُّماً جديداً بأولوياتها في ضوء رؤية واضحة حديثة ترسم دوراً اقتصادياً جديداً للبنان آخذة بعين الاعتبار ما أنجز من تطور في إقتصاديات المنطقة العربية وما جرى من متغيرات ، في الخارج ، أحدثها تطور الاقتصاد العالمي المعولم.. وذلك في إطار خطة تنمية شاملة وبرنامج تفصيلي للمحافظة على البيئة.

 

8 ـ إعادة إطلاق مساهمة لبنانية في تجديد فكرة العروبة من خلال استخلاص دروس التجربة اللبنانية، انطلاقاً من النظرة إلى العروبة كرابطة تاريخية حضارية وثقافية، منفتحة على منجزات العصر، وقائمة على ديمقراطية تُراعي تنوع المجتمعات العربية وتعددها السياسي وحاجتها الأساسية إلى التكامل على أكثر من صعيد وبخاصة على الصعيدين الاقتصادي والثقافي وهذا ما يتطلَّب:

التواصل مع القوى الديمقراطية ونخب المثقفين في البلاد العربية حيث بدأوا يخوضون معركة الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنية والتنمية في العالم العربي.

الإسهام في تحديد طريق عربي قويم نحو السلام يأخذ في الاعتبار وقائع المنطقة والعالم دون الاستسلام لها، ويعمل على إحباط المشروع المطروح من تسوية تستهدف إخضاع العرب إلى نظام إقليمي تتزعمه إسرائيل وإقامة نظام إقليمي عربي مستقل بديل يحفظ مصالح الشعوب العربية وأمنها، ويعزِّز طموحها نحو التكامل والديمقراطية والتنمية والتقدُّم..

دعم نضال الشعب الفلسطيني وانتفاضته لاسترجاع حقوقه المشروعة في عودة أبنائه من الشتات وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس ، وحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ، دعماً لحقهم المشروع في العودة إلى دولتهم وديارهم، بإجراء حوار رسمي بين الدولة اللبنانية والسلطة الفلسطينية، منعاً للتوطين، وسعياً لمعالجة أوضاع اللاجئين الإنسانية والاجتماعية بما يؤمن حقوقهم المنصوص عليها في الشرائع والاتفاقيات ذات الصلة..

دعم الشعب العراقي في مواجهة العدوان الأميركي عليه وفك الحصار الظالم عنه ودعوة القوى الشعبية والديمقراطية العربية إلى القيام بهذه المهمة القومية.

 

إنَّنا إذ نتقدَّم من اللبنانيين جميعاً بهذه الدعوة ، عبر المنبر الديمقراطي ، فمن أجل أن يستعيدوا ، بأنفسهم ، السيطرة على أمور حياتهم العامة والقدرة على رسم معالم مصيرهم بالوعي التاريخي وروح المسؤولية العالية وأخلاقية الاعتدال والانفتاح وذلك في مناخ ديمقراطي سليم. إنَّ اللبنانيين مطالبون ، اليوم أكثر من أيِّ يومٍ مضى ، باجتراح هذا الإنجاز التاريخي وهم مؤهلون لذلك بعد تمرسهم الطويل والشاق بالنضال في مواجهة الاعتداءات والأزمات والحروب.. وبعد تمكنهم من إحراز الكثير من النجاحات العظيمة وآخرها تحرير جنوب الوطن من الاحتلال الإسرائيلي… لنبدأ بتحويل مجرى الزمن اللبناني من فصول الدمار والدماء والعقم إلى فصول الإعمار والتجديد والازدهار. لنبدأ إعادة بناء الوطن بالوفاق الوطني وإرادة التغيير..