المؤتمر الدائم للحوار اللبناني مشروع الوثيقة التأسيسية

وثائق لبنانية
22 كانون الأول 1993

 

المقدمة

هذه الوثيقة تمثل خلاصة حوارات سياسية دؤوبة ومتواصلة، جرت على مدى سنة تقريبا بين مجموعات وأفراد وشخصيات من مختلف المناطق اللبنانية، مهتمة بالبحث عن السبل الكفيلة بإطلاق فاعلية سياسية وطنية، تعبر عن مشترك وطني جامع، وقادرة على مواكبة حركة المجتمع اللبناني المقبل على تثبيت السلم الأهلي وإعادة البناء ومواجهة تحديات كبرى بدأت ترتسم معالمها جرّاء عملية المفاوضات العربية الإسرائيلية وآفاق "النظام الدولي الجديد". هذا في وقت تتصدر الحياة السياسية اللبنانية قوى وأشخاص وعقليات ما زالت تنتمي بمعظمها الى مرحلة الحرب الأهلية، وتتميز بقدر كبير من الغربة عن المجتمع المدني وعدم الأهلية الكافية لادارة شؤونه ومواكبة حاجاته.

إن ما تتضمنه هذه الوثيقة من مبادئ ومنطلقات فنظرات الى الموضوعات الأساسية، ينطلق من نظرة الى الواقع اللبناني بكل تنوعه وتعقيداته، تتجنب إسقاط نظريات جاهزة عليه او تغليب رغبات فئوية، وتسعى الى اكتشاف وبلورة مفاصل اساسية يمكن ان ينعقد عليها جهد وطني تاريخي يضع السكة على أرض حقيقية وفي وجهة صحيحة.

إن فهم الواقع وإستشراف آفاق المستقبل، وبالتالي رسم خطة لانتقال صحي سليم باتجاه المرتجى، تتأمن من خلال حلقة اساسية هي عبارة عن منهج قبل أي شيء آخر. وهذا المنهج هو الحوار الوطني الديموقراطي الساعي لتطوير المساحات المشتركة وتعزيز التضامن حولها، بعيدا عن نزعات الاجتزاء أو المصادرة... إننا نفكر بالمستقبل الواحد لجميع اللبنانيين وليس بمستقبل جماعة منهم.

لذلك فاننا لا نعتبر هذه الوثيقة نصا نهائيا ناجزا، وإنما نعتبرها نصا ابتدائيا، نرجو ان يكون لاطلاق عملية حوارية تضامنية، في إطار يؤمن لها التراكم والفاعلية هو "المؤتمر الدائم للحوار اللبناني". وهذا النص مفتوح على التطوير، وننظر الى اكتماله النسبي من خلال القراءات المتعددة واللقاء مع الآخرين، ومن خلال اختبار الأفكار في الواقع، بما يؤمن للإطار صدقية حقيقية لا مدعاة، فلا محل لكلام بالنيابة عن الآخرين، ولا وجود لفئة او مؤسسة يمكنها اختصار الجميع أو الإستغناء عنهم.

وقد ينطلق الحوار من مستويات مختلفة تحددها درجة اللقاء الأولي بين المتحاورين، وهو ما يمكن ان نسميه "عتبة الحوار". ولكن هذه العتبة لا تستطيع أن تشكل مرتكزا لإطار دائم وفاعل إن هي بقيت في درجة قريبة من الصفر، فالحوار ليس مطلوبا لذاته. لذلك فإن ما تطرحه هذه الوثيقة يمثل مستوى للقاء، متحققا على نحو ما، في ما بين المؤتمرين في إطار "المؤتمر الدائم للحوار اللبناني"، وهو في الوقت عينه مستوى مقترح للحوار حوله مع الآخرين الذين يشكلون جزءا اساسيا – وربما تأسيسيا – في عملية الحوار وإطاره. وهذا المستوى قابل لاعادة الانطلاق من نقاط اخرى دونه، وبديهي أنه مفتوح على التطوير والتجاوز. ونقول بمساهمة "تأسيسية" للآخرين لأننا نعتبر الحوار عملية دائمة مستمرة، وبالتالي فإن إطاره يحمل من بعض وجوهه معنى استمرارية التأسيس.

وهذه الوثيقة لا تدعي أيضا تقديم برنامج متكامل للعمل. فالبرنامج الذي نسعى اليه هو نتاج النظر المشترك الى متطلبات المرحلة وآفاقها، وهو من صنع اللقاء الأوسع القادر على إنجازه بعد تحديد أولوياته. لذلك فإن غياب الوثيقة البرنامجية لم يكن بسبب قصور في التصور، وانما أتى إنسجاما مع تصورنا لآلية إنتاج البرنامج... إن خط الحوار السياسي الوطني ينبغي ان يكون متلازما مع خط حواري عملي لترجمة التوجه المشترك في صيغ عملية ومهام محددة.

ولعل هذه الوثيقة تشكل مساهمة متواضعة في إعادة التأسيس لمنهجية ولغة متميزتين في العمل السياسي:

1 – منهجية الواقعية التي لا تستسلم للواقع او تركن اليه، كما لا تنقطع عنه بداعي تجاوزه.

2 – ولغة سياسية تقلع عن الادعاء والتعسف، وتغادر الكسل الفكري المتمثل باستعادة صيغ مكرورة موروثة باتت قاصرة عن مواكبة المتغيرات والتعبير عنها.

ونص الوثيقة يتجاوز أحيانا السياسة ببعدها المباشر ليتصل بمختلف وجوه المسألة اللبنانية وتجلياتها، من غير ضعف أمام الترسيمات السياسية الجاهزة، وفي محاولة دائمة لإعادة فحصها في الواقع وفي ضوء التجربة، كما يتجنب القراءة الاحادية الجانب التي تختصر الواقع ببعد طائفي او طبقي او تاريخي او غير ذلك، ليقدم قراءة تأليفية تلم قدر الامكان بمختلف وجوه الواقع اللبناني واتجاهاته.

ويهمنا أن نتمنى على شركائنا في الحوار حول هذه الوثيقة ألا يحاكموا نصّها بمعايير الاكتمال الفكري او النظري المنهجي، لأن ما تقدمه ليس نظرية سياسية ولا دراسة أكاديمية، كما أنها في المقابل ليست منشورا ذرائعيا معدا للتوظيف والتجيير. إنها تتطلع الى المجتمع أساسا، وهي بقدر ما تسترشد بالمجتمع وتنجح في التعبير عن مصالحه الكلية الحقيقية تمتلك أهلية الترشيد والإشارة.

إن جميع القراءات والمساهمات التي تقدم إضافة على النص او تلقي مزيدا من الضوء على جوانب أخرى من الموضوعات المطروحة، تشكل جزءا من عملية الحوار وقسما متمما لهذه الوثيقة. كما أن جميع الآراء والمواقف والممارسات التي تلتقي مع معنى مؤتمرنا – على نحو ما – تنتمي اليه، أو هو ينتمي اليها، ولا عقدة لدينا في هذا الشأن.

أولاً: الهدف

يهدف "المؤتمر الدائم للحوار اللبناني" الى تجديد صيغة التفاعل الإنساني التي عرفها لبنان وتطويرها، انطلاقا من ايمان وطني بها، وقناعة متجددة بأنها الإطار الأوفق لخيارنا الحضاري التاريخي، مستفيدين من تجربة العيش المشترك ودروس الحرب.

وخيارنا هذا يتعارض مع أهداف وتطلعات أخرى اختبر اللبنانيون مخاطرها على حاضرهم ومستقبلهم، كتلك التي تسعى الى القسمة، او الاستتباع القسري (داخلي او خارجي)، او الغاء الدور المستقل وإلحاقه بأدوار أخرى، أو إسقاط أنظمة كلية على النسيج المجتمعي اللبناني المتنوع تلغي معناه ومسوغه التاريخي.

ثانياً: فكرة التسوية وقيم التوسط والإعتدال

يقوم معنى لبنان وصيغته الخاصة على أساس مفهوم التسوية في الإجتماع السياسي، وهو مفهوم أصيل وبنّاء في تكوين المجتمعات وإقامة مصالح الجماعات، بخلاف ما قد يرى البعض من أن مفاهيم الغلبة ومحاولة إلغاء الآخر المختلف تكوينا ومصالح هي المحرّك الأساس للتاريخ الاجتماعي.

وفضلاً عن هذا، فإن فكرة التسوية في المجتمع اللبناني تفرضها أصالة التنوع ومشروعية التعدد، وتدعمها تجربة الديموقراطية التي تعني قبل اي شيء قبول الآخر المختلف وعدم ادعاء احتكار الحقيقة. ولا محل، في تجربة الاجتماع اللبناني وفي طبيعة التركيبة السكانية والسياسية، لأي برنامج يحمل الحد الاقصى من المصالح والتصورات الايديولوجية لأي طائفة او مذهب أو حزب، فالعمل على تجسيد المصالح القصوى مشاريع سياسية هو معادل التقسيم والحرب الأهلية.

إن الجنوح الى التسوية بين المتعارضات، واختيار مفاصل ينعقد حولها إجماع أو شبه اجماع وطني، هما في أساسيات التجربة اللبنانية وشرط استمرارها وفتح آفقها لتوليد مفاهيم ومقولات مشتركة. فالتسوية – خصوصا متى رفدتها ثقافة سياسية تؤسس لها نظريا – ليست توليفا هجينا بين عناصر متنابذة، بل هي نتاج فكر يرى الى الحقائق الاجتماعية والسياسية بوصفها نسبيات، ويعمل على إنتاج سوية عامة هي بالضرورة مركبة ومتعددة الوجوه والمستويات.

هذا المنحى في مواجهة الاشكاليات ينمو ويزدهر مع سيادة قيم التوسط والاعتدال في الفكر والممارسة، ويتراجع أمام نهوض العصبيات الملغية لما سواها، والتي هي نتاج "عقل سجالي" غير محاور. إن "العقل الحواري" هو عقل "تسووي" متسامح بالضرورة. ولعله قد حان الوقت لرد الاعتبار الى فكرة "التسوية والوسطية" بعد ان ظلمتها طويلا وحجبت فضائلها سيادة التطرف الراديكالي او الفئوي الميليشياوي.

إن منهجية الحوار، من موقع التوسط والاعتدال، تسمح برؤية جميع عناصر المعادلة، وتمييز الدائم من العارض، والأصيل من الدخيل، في مواجهة المشكلات، بينما يصاب التطرف دائما بانتفاخ الذات الذي يحجب عن صاحبه كل الصور باستثناء صورته، فلا يرى الأمور إلا من زاويته الخاصة، ويريد دائما ترتيبها او قلبها على أساس وجهة النظر لا على اساس الواقع والحقيقة... هذا اذا أحسنّا الظن به!

ولقد اثبتت التجربة اللبنانية، خلال الحرب وبعدها، أن إتجاهات التفكير المعتدل في لبنان – خاصة لدى المرجعيات الروحية للطوائف، وكل الذين لم يتنصلوا من ذاكرة العيش اللبناني – مثلت مواقع متقدمة للمحافظة على ايجابيات التجربة واستنقاذ الكثير منها في اجواء الافراط والتفريط، وهذه المواقع لا تني تقدم البرهان على حضورها في هذا الاتجاه، على الرغم من المحاولات المعروفة لتعطيل دورها واطلاق ادوار الغرائز والتطرف. ولا ينفي هذه الحقيقة ظهور بعض الرموز الدينية التي ركبت مركب التطرف لفترة محدودة وما لبثت ان انكفأت الى خانة النسيان.

إن التسوية في واقع الاجتماع السياسي اللبناني ليست خيارا من بين خيارات، وإنما هي الخيار الطبيعي الذي يمكن أن يجد الجميع أنفسهم فيه. أما خيارات التطرف – وإن نجحت قسرا لفترة محدودة- فانها تؤسس لمضمرات وكمائن تتحيّن دائما اللحظة التاريخية المناسبة للانقلاب، وهي لحظة تنتمي عادة الى زمن سيادة الخارج على الداخل.

ثالثاً: لبنان المعني والدور والصيغة

العودة الى لبنان

استطاع لبنان على إمتداد فترة غير قصيرة من تاريخه الحديث وتشكله الوطني ان يكون فسحة مميزة يختبر فيها الإنسان قدرته على التفاعل مع الآخر، وإستيعاب التنوع، وإعادة صياغته، مقدما بذلك مساهمة حقيقية في إغناء الحضارة الانسانية.

ولقد قدم لبنان نموذجا لأسلوب حضاري في البحث الدائم عن العيش والترقي قائم على اسس التسوية والتوافق والانفتاح، ومبادئ التعاهد والميثاقية، وعلى التأليف المتنوع الذي يغتني بعناصره المكونه فيسعى الى تجاوزها من دون إلغائها.

إن التجربة اللبنانية – ما قبل الحرب، وبما أضافت اليها الحرب نفسها من عبر ودروس- قدمت شواهد عدة على "إمكان" و "ضرورة" الانتقال من مفهوم "الملجأ" والتجاور والتعايش الى حالة العيش المشترك والتفاعل الإنساني الواثق، والإندفاع قدما في تثبيت أركان وطن واحد نهائي لجميع أبنائه يجد مسوغه في معنى ودور.

إننا ننظر الى معنى لبنان ودوره كحاجة انسانية مستمرة لتفاعل خلاق بين المسيحية والاسلام، يمنح ابناءهما فرصة الاغتناء الروحي المتبادل من خلال العيش المشترك المؤسس على الحرية والمساواة في المواطنية، والقائم على التنوع في اطار وحدة تحترم الاختلاف والتغاير، وتفهم منابعهما في التاريخ والدين والاجتماع، من غير ان ترفعهما الى مصاف التناقض، أو تعمل على تغليبهما على عناصر التماثل والإتفاق، أوتسعى الى تأبيدهما في الحاضر والمستقبل. وعليه فإن العيش اللبناني المشترك في حدود الواقع ومثالات المرتجى هو إختيار حرّ يطلع من قناعة، وليس جبرا تمليه الصدفة التاريخية او تحتمه إعتبارات السياسية والجغرافيا. انه فعل ارادي يتجدد، طورا بعد طور، وتتجدد معه الصيغ الناظمة له، ليبقى مشدودا الى غايته الأخيرة.

وهذا المعنى يحمل مسوغات استمراره حتى عندما تطرح مشاريع الاجتماع السياسي الاوسع، العربي او الاسلامي، اذ ان العروبة او الاسلام، كما نفهمهما، لا ينبغي لهما ان يكونا إلغائيين للخصوصية اللبنانية او الخصوصيات الاخرى، وانما ننظر اليهما كرافعتي نهوض وتكامل لشعوب المنطقة في عالم الكيانات الكبرى المعاصر. ولا سجال لنا مع الاسلام عقيدة وثقافة، ولا مع العروبة كمعطى تاريخي حضاري أصيل في مجتمعنا، وانما قد لا نتفق مع بعض مفسريهما وبعض حملة المشاريع. كما ونرى في الاسلام والمسيحية، على صعيد حركة الاجتماع، ناظمات قيم انسانية وغايات في الحرية والعدالة، وليس قوانين ودساتير في تكوين الدول والحكومات او في آليات الإدارة والحكم. فالقيم والغايات التي يطرحانها لا يختلف حولها شعبنا في لبنان والمنطقة.

 

ومن هنا نرى ان في تعميق وترسيخ الاختبار الإنساني اللبناني تعميقا لمفاهيم العروبة والإسلام والمسيحية المشرقية في حياة مجتمعنا وشعوبنا.

- إن هذا المعنى الذي تنتمي اليه التجربة اللبنانية، وتسعى الى تعميقه وتطويره، ينتمي بدوره الى مجرى "حوار الحضارات" الذي لا يتوقف، وهو معنى منفتح بالضرورة على تجارب الحداثة والمعاصرة وعلى أي وافد ثقافي ابداعي. غير إن هذا الإنفتاح لا يمكنه تحقيق غايته المرجوة الا مع تبلور الشخصية المتلقية وآصالتها، بحيث تتمكن من تمثل الوافد لا اقتباسه، ومن توظيفه في بنيتها الخاصة المركبة لا تفصيلها على قياسه. فالحداثة ليست اطاراً مفارقاً ننتقل اليه، ولا نموذجاً نقلده، وإنما هي حالة نسهم في خلقها وتشكيلها انطلاقا من معطيات وجودنا وخصائصه، ومن اتصال حرّ بتجارب تراثنا وبآفاق مستقبل نرسمه باختيارنا. انها مجموعة من التجارب الخاصة، اثبتت كل واحدة منها نجاحها على ارضها وفي بيئتها الثقافية الحضارية، بعد ان امنت دينامية خاصة للنماء والترقي، فأدخلت مجتمعها في فعالية العصر والراهن، وفرضت بالتالي حضورها في مساحات العالمية.

إن نجاح اللبنانيين في تعميم تجربتهم الإنسانية وتطويرها يقدم إسهاما أساسيا في رسم معالم الحداثة العربية.

لقد قامت صيغة الوطن اللبناني المعاصرة، حين قامت، على تسويتين:

تسوية داخلية بين المجموعات اللبنانية، وتسوية خارجية بين القوى الاقليمية والدولية، بموازين قوى غير متكافئة داخليا وخارجيا. صحيح انه كان للتوافق الداخلي دور حاسم في استيلاء الصيغة والسير بها، غير ان الخارج بقي الضامن الاساسي لها ولتوازناتها، في ظل ضعف التجربة اللبنانية وإنبنائها على اتفاق السلب لا الإيجاب ــ (اللاءات الميثاقية) واستمرار تحكم الحذر والتربص بالعقل السياسي اللبناني. وهكذا قام على تلك الضمانات الخارجية – التي هي في حقيقة امرها ميزان قوى متغير ومعادلة مصالح متحركة وليست التزاما مبدئيا ثابتا – جانب كبير من توجهات المجموعات اللبنانية ورهاناتها لمدة طويلة.

وجاءت الحرب اللبنانية، في ما بين 1975 واتفاق الطائف، لتشهد تفكيكا للصيغة اللبنانية في سياق تراكب استهدافات الخارج على استعدادات الداخل. فقد تقدم لبنان موضوعا مناسبا لاستقبال عملية الصراع والتجاذب في المنطقة، وانخرط اللبنانيون – بقسم كبير منهم، وبسبب استعداداتهم – في العملية الصراعية، وانساقوا الى نهاياتها المنطقية في ظل ضعف متزايد للممانعة الداخلية. ومع تمادي الحرب، بسياقاتها العبثية لبنانيا، كان يزداد ضمور المجتمع المدني اللبناني وتهميش قواه الحية، بما في ذلك اصحاب ذاكرة العيش المشترك، لتنهض ادوار قوى الحرب التي وجدت نفسها في النهاية، ومن مواقعها المتقابلة، مجرد ادوات لا تملك القدرة حتى على اتخاذ قرار الانسحاب من الحرب، على الرغم من قيام الدليل على عقمها وعبثيتها.

وبعد توقف الحرب الداخلية بقرار دولي وإقليمي بدأ اللبنانيون، وفي طليعتهم قوى  المجتمع المدني، يستفيقون على حقيقتين اساسيتين:

أ – أن تجربتهم المشتركة ما قبل الحرب، وفي اطار الصيغة اللبنانية ومضامينها، كانت قد ولدت من قيم العيش الجديدة ومكتسبات الحرية والديموقراطية والتنمية ما يستأهل التمسك به بقوة والسعي لاستعادة مقوماته، خصوصا بعد الدمار الكبير الذي لحق بالمجتمع ومؤسساته، وبازاء الخيارات المريبة التي تشير اليها لعبة الأمم في المنطقة. هذا مع تلمس كثير من جوانب الخلل البنيوي والسلوكي في المجتمع اللبناني والتي ساعدت على استقبال عملية الصراع والمشاركة فيها.

ب – والحقيقة الثانية هي ان المشروع اللبناني لا يجد ضمانته الثابتة الا في الاتفاق الداخلي والوحدة الوطنية التي تحصنه امام التحديات وفي اجواء عدم الاستقرار العام في المنطقة، المفتوح على احتمالات متعددة. كما وان الضمانة الداخلية لا تقوم على الامتيازات او المرجحات العددية او التحصن داخل الذات، وانما تقوم على الانفتاح على الشريك وعلى القناعة بوحدة المصير معه والتأسيس عليهما.

ولقد أثبتت تجربة الحرب ان استقطاع الطوائف لرقع جغرافية معينة، وتحصين نفسها داخلها عسكريا وسياسيا، وسعيها الى تكوين دورة اقتصادية خاصة بها، واعتزالها الصالح العالم الذي هو صالح مشترك بالتعريف، بدعوى البحث عن الامان والموقع السياسي الخاص، انتهى الى تدمير ذاتي لكل طائفة، تجلى مزيدا من الذعر عوض الطمأنينة، ومزيدا من الاستتباع للخارج عوض الفاعلية الخاصة، ومزيدا من الاختناق الاقتصادي عوض الكفاية.

- إن الغالبية العظمى من اللبنانيين خرجت من الحرب بيقينيات باتت تشكل المضمون الاساسي لما يمكن تسميته "حالة العودة الى لبنان"، بما تعنيه من النفور المتزايد من العنف والتطرف – الاقلاع عن مشاريع الغلبة والنبذ والاقصاء – ضمور المراهنة على الاستقواء بالخارج لتحقيق استهدافات داخلية – الثقة والقناعة بوحدة المصير – والقراءة الايجابية لتجربة العيش المشترك ولأهمية لبنان كمساحة حرية وسط محيط قليل الحساسية تجاه قضايا الديموقراطية والاختلاف.

- واذا كانت هذه الحالة تستمد زخمها من اكتشاف متجدد لايجابيات التجربة اللبنانية منذ انعقاد الميثاق الوطني الذي اسس للاستقلال، كما من عبرة الحرب ونتائجها الكارثية، فانها تتغذى بشكل اضافي من ترسخ الكيانات العربية السياسية دولا  نهائية تنهض على عصبيات قطرية ماضية في التجذر.

- إن اعادة الاعتبار الى ضمانة الاتفاق الداخلي والوحدة الوطنية – كثابت يستند اليه النظر والسلوك، بشكل استدراكا تاريخيا ومشروعا وطنيا في حد ذاته، وليس مجرد وجهة نظر، وعلى هذا الاساس نرى اهمية ان تقوم المجموعات اللبنانية المختلفة باعادة النظر في ترتيب اولوياتها في ضوء الحقيقة المستفادة، وهي ان المصلحة العليا لكل مجموعة تكمن في سلامة الاجتماع اللبناني ومصلحته الكلية وليس خارج ذلك، هذا في اطار حوال منفتح ومسؤول مع الآخر ومع الذات، بما في ذلك اعادة النظر في علاقات كل منها بمراكز التأثير والتوجيه الخارجي، او ما يسمى بالمرجعيات.

- ولا بد للبنانيين في هذه المرحلة، وهم يقيمون حوارهم الوطني، ان يبذلوا جهدا كافيا لتبرئة اتفاقهم من عناصر الكيد والتربص والحذر والمراهنات الخاطئة – تلك العناصر التي ادت وتؤدي دائما الى حالات متنوعة من الارتهان – وان يحلوا محلها عناصر الثقة المتبادلة والاطمئنان الى اختيار حر دائم.

رابعا: مبادئ ومنطلقات في النظر

الى الكيان والدولة والمجتمع في لبنان

استنادا الى ما تقدم من نظرة الى معنى لبنان ودوره والى تمسكنا بصيغة العيش المشترك اللبناني، نطرح في ما يلي بعض المبادئ والمنطلقات، وقراءة حوارية لمسائل الدولة والمجتمع والطوائف والديمقراطية.

1 – الكيان اللبناني:

إن لبنان ليس كيانا عرضاً أو صدفة تاريخية يترك للعوامل الخارجية أمر تقرير مصيره، كما أنه ليس كيانا أزلياً واجب الوجود لذاته، وإنما هو معنى ودور يرتبطان بإرادة أبنائه وبقدرتهم على النهوض بمسؤوليتهما. إنه أكثر من كيان سياسي قانوني، لجهة رسالة الحوار والتفاعل المهيأ لها، وليس أقل من كيان وطني بمقاييس الدول والأوطان القائمة.

2 – الاستقلال والوحدة الوطنية:

السيادة والاستقلال في لبنان متلازمان تلازما كاملاً مع الوحدة الوطنية، فلا إستقلال ولا سيادة في ظل لتناحر الداخلي. كما ان الوحدة الداخلية لا تُفرض من قبل فريق على آخر، وإنما تأتي عبر البحث الدائم عن تسوية مبنية على التوازن، ساعية الى الإقتراب من العدالة. وقد أثبتت تجربة الحرب أن أي إنكسار في الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين يستجرّ إنكسارات متتالية داخل كل جناح طائفي، ثم يتوغل في الطائفة الواحدة والمذهب الواحد باتجاه تفتت لا قرار له. وعليه، فان حماية أية طائفة او مذهب تبدأ من حماية الوحدة الوطنية وليس من نقضها او إضعافها، ولا أمن لأية جماعة طائفية خارج الأمن اللبناني الشامل.

3 – الذاكرة اللبنانية والمستقبل:

إن تاريخ لبنان الاجتماعي ليس تاريخ انقطاع  وصراع متواصلين بين المجموعات التي توافدت الى رقعته على إمتداد قرون ثم تشاركت في تأسيس كيانه السياسي وصيغة دولته، بل لعل الأسلم تاريخيا ان يُجاهَر بأن تاريخ لبنان هو تاريخ تواصل وعيش مشترك بين جماعاته، تخللته لحظات توتر وانقطاع لم تستطع أن تهدر تراكمات العيش المشترك ولا أن تحجب رغبة اللبنانيين في استئنافه بعد كل إختلال.

وكما ان ذاكرة العيش المشترك عنصر اساسي في التفاهم، فان الاتفاق على خيارات المستقبل الكبرى يشكل حافزا لانخراط اللبنانيين في مشروع وطني واحد لدور حضاري مميز. إن حركة المجتمع تستمد زخمها من الذاكرة والحلم في آن معا. ذلك ان تراكمات السعي المشترك في الحاضر لا تلبث انتشكل مادة ذاكرة ينبني عليها سعي متجدد باتجاه الحلم.

 

ان التجربة الاميركية – على سبيل المثال – تقدم نموذجا لحركة مجتمع مشدودة الى "الحلم الاميركي"، مع ضمور الذاكرة البعيدة وميل الى التخلي عنها... فالراهن هو الذاكرة، والمثال لا وجود له الا في المستقبل. كما ونستطيع ان نلاحظ ان السعي الاوروبي للتكامل المادي والانساني لا تحركه ذاكرة تنتمي الى الماضي بقدر ما يحركه نزوع الى دور مستقبلي.

هذه ليست دعوة الى التخلي عن دور الذاكرة التاريخية الاجتماعية – فهذا امر غير ممكن – وانما دعوة الى ملاحظة اهمية وضع المثال في المستقبل وليس في الماضي.

4 – التنوع والوحدة:

ان التنوع القائم في المجتمع اللبناني هومصدر ثراء وغنى، ويشكل نوافذ حضارية على مكاسب للبشرية في هذا العصر والعصور الماضية، فتدخل هذه التجارب على لبنان وتتفاعل في ما بينها لتنتج تأليفا متعدد المصادر، قائما على الاستيعاب والتمثل، يقوي الوحدة الوطنية الانسانية ولا يضعفها او يشتتها.

5 – المساواة في المواطنية:

إن التجربة اللبنانية تتحرك في اطار وطن ودولة، لذلك لا بد من التأكيد علىحق الأفراد والجماعات في المساواة في المواطنية، إنطلاقا من إنتسابهم الى وطن واحد يقيمون على أرضه حياتهم ومصالحهم ويحققون عليها مقاصدهم وتطلعاتهم.

6 – الدولة والمجتمع والطوائف:

إن الدولة في جوهرها جهاز ادارة وضبط للنشاطات والمصالح المشتركة في المجتمع، وليس لها غائية تستمد منها شرعيتها. انها مؤسسة من مؤسسات المجتمع، وإن كانت المؤسسة الكبرى بامتياز او مؤسسة المؤسسات. وهي بهذا المعنى لا تستطيع ان تشكل اختزالا للمجتمع او تعبيرا صافيا متعاليا كليا عليه او إلغائيا له. وهذا المعنى يتأكد في المجتمعات التي لم تستطع الدولة فيها تفكيك النسيج الاجتماعي وارساء علاقة بين افراد وجهاز دولة متضخم السطوة على الدوام.

والدولة في ادارتها ورعايتها للصالح العام المشترك تبقى مشدودة الى الغايات التي يحددها المجتمع. فالشرعية التي تمتلكها هي شرعية وظيفية يمكن الحكم عليها بمعايير الفعالية والمردودية، وبمدى انسجامها مع التوجهات الاساسية للمجتمع.

إن الدولة المطلوبة هي الدولة المتصلة بالمجتمع المتكاملة معه، في معادلة قيادة وانقياد في الوقت نفسه: قيادتها للصالح العام المشترك، وانقيادها للغايات التي يحددها المجتمع، فلا الدولة وصية على المجتمع تتصرف بمعزل عن توجهاته، ولا المجتمع قادر على ان يحل محلها.

إن الدولة في تجربة المجتمع الغربي الحديث استطاعت الى حد كبير تحويل المجتمع الى مجرد افراد، فاتصلت بهؤلاء الافراد اتصالا وثيقا لصيقا من خلال تأدية دورها الوظيفي الاداري بكفاءة عالية، غير أنها غالبا ما انفصلت عن غايات المجتمع من خلال تفكيك المستند المجتمعي لهذه الغايات وحلول الدولة محله... ولكن هل الدولة في مجتمعنا العربي، ومنه لبنان، استطاعت ان تقوم بالدور الوظيفي ويربطه بغايات المجتمع؟

واقع الحال أن الدولة في مجتمعاتنا اخفقت في الاتجاهين، فانفصلت عن المجتمع في ميداني المصالح العملية والغايات البعيدة، وتحولت الى جسم يبدو دخيلا، تقوم علاقته بالمجتمع على نصاب من الغربة والتنازع والغلبة. وفي حين قدم الغرب نموذج الدولة القوية المكيفة لمجتمعها، قدمت تجاربنا الحديثة نموذج الدولة الهجينة العاجزة والسلطة الاستبدادية.

-         إن مجتمعنا اللبناني هو مجتمع متصل بقيم الدين، وهو الى ذلك متعدد الطوائف والمذاهب، ولا نجد في ذلك بأسا، بل لعلنا نجد فيه خيرا كثيرا من خلال فهمنا لمعنى هذا التعدد والتنوع ودورهما. وعليه كيف يمكن ان تقوم علاقة الدين / الطوائف بالدولة؟

 

ليس الدين عقيدة مجردة منفصلة عن المجتمع. انه متحقق عمليا في المجتمع ويمكن اعتباره الطريقة التي يتوصل من خلالها مجتمع ما الى وعي نفسه ووعي صلاته بالطبيعة والعالم والكون. وبالتالي فإن تنظيم العلاقة بين الدولة والدين وإحلال التناغم بينهما يتأمنان بتنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع وسلامتها.

هل الدولة المطلوبة في لبنان هي الدولة الدينية – الطائفية؟

إن الدولة بما هي جهاز اداري تنفيذي وشخصية معنوية ممثلة للصالح العام المشترك لا تستطيع، في الواقع اللبناني، الا أن تكون دولة مدنية. إنها دولة غير دينية وغير ايديولوجية،  والا تحولت الى دولة كلية توتاليتارية تسعى بالضرورة الى تكييف النسيج الاجتماعي، بكل محمولاته، على مثالها الخاص، او انها تتحول الى كونفدرالية طوائف.

وفي الدولة المدنية لا يوجد ما يستدعي تدخل الطوائف في شؤون الدولة الا عندما تتطرف هذه الاخيرة الى القضايا التي تتخطى المسائل الادارية التنفيذية لتتصل بمستقبل البلاد وخيرات المجتمع الكبرى او اسسه الميثاقية التعاقدية، فلا ينبغي في هذه الحال ان تتصرف الدولة بمعزل عن الطوائف.

-         ولكن هل يجوز أن تقوم علاقة الدولة بالمجتمع في لبنان على نصاب واحد هو علاقتنها بالطوائف؟

صحيح ان الطوائف تمثل اطارا رئيسيا للانتظام الاجتماعي، ولكن هذا الاطار لا يمكنه استغراق (استيعاب وتمثيل) الأطر الاخرى، فضلا عن خريطة المصالح المتنوعة المتداخلة. فالمجتمع اللبناني يتكون من طوائف وطبقات وفئات وشرائح وعائلات وعشائر، والمواطن ينتمي في الوقت عينه الى اكثر من دائرة من هذه الدوائر، هذا الى تعدد المناخات الثقافية وتنوعها. كل ذلك يطلق في المجتمع دينامية لا تضبطها حدود الطوائف، ويخلق حاجات ومتطلبات تتجاوز قدرة الاطار الطائفي على استيعابها.

واذا كان لا بد للطوائف من إطار تمارس من خلاله مراقبتها لمدى انسجام أداء الدولة مع المصالح العليا للمجتمع – ولعل صيغة مجلس الشيوخ الطائفي تؤمن هذا الامر – فانه لا بد الى جانب ذلك من وجود أطر اخرى تسمح لقوى الاجتماع الفائض عن الطائفية بالمشاركة في توجيه الدولة، وهذا ما تؤمنه أطر  من نوع المجلس الاقتصادي الاجتماعي، وصيغ من نوع اللامركزية الادارية، وهيئات ثقافية فكرية وطنية تمارس دورا في توجيه سياسات الدولة وترشيدها في مختلف الشؤون.

إن ما تقدم يستدعي القول بأن الدولة هي مجال تمثيل المواطنين الأفراد، سواء كانوا في احزاب وجمعيات مدنية او لم يكونوا كذلك، وليست مجال تمثيل الطوائف.

- وإذا كان لا بد للدولة من الانقياد للغايات التي يحددها المجتمع، فانها تمتلك ايضا حيزا من الاستقلال النسبي عن الجماعات التي تسوسها، بوصفها المؤسسة الدائمة لرعاية المشترك العام الذي يتعالى على المصالح الخاصة ولا يصطدم بها، كما بوصفها الاطار الدائم للتراكم والترصيد على صعيد التنظيم والربط والتكامل، والجهة المكلفة من قبل المجتمع حراسة الحريات وحقوق الأفراد وسيادة القانون. وبهذا المعنى، تقوم الدولة بدور لا غنى عنه في تأهيل المجتمع المدني وتثبيته وفي ترسيخ قيمه. ومن هنا نفهم ضرورة تدعيم الدولة وقيام مؤسساتها في هذه المرحلة التي ينتقل فيها المجتمع اللبناني من حال الحرب الى السلم الأهلي.

-         إن الدولة اللبنانية بدأت تنحرف عن وظيفتها الاساسية، وفقدت الكثير من سماتها المدنية، حين تخطى المتصارعون على السلطة القواعد السليمة والحدود المفترضة، فلجأوا الى استنفار المجتمع  لتوظيفه في صراعهم، فتحولت الدولة من جهاز ادارة في مجتمع موحد الى هدف لصراع الطوائف، وحاولت كل طائفة انتزاع جزء من سلطة الدولة، في الوقت الذي كانت تحاول فيه بناء أجهزة ادارية خاصة بها. ونستطيع ان نلاحظ ان معظم الحوارات التي دارت حول الاصلاح السياسي كانت عقيمة لانها تركزت في الغالب على وقف الصراع بين الطوائف عن طريق اعطاء كل منها حصة في الدولة. ولتبرير هذا التوجه المعطل للدولة، اعتبر البعض ان تمثيل الطوائف في جهاز الدولة يؤمن لها الضمانات التي تبحث عنها، ويلغي بالتالي عقد الخوف والغبن. ان الحل الصحيح لا يكون بتسليم الدولة الى مقصات الطوائف.

ان الهدف المنشود هو الوصول الى دولة فاعلة غير معطلة، وقوية غير مستأثرة، متواصلة مع مجتمعها.

-         إن إلغاء الطائفية، بمعنى الغاء الدور السلبي المعطل الذي يلعبه التدخل الطائفي في شأن الدولة، هو بلا شك هدف وطني لمصلحة جميع اللبنانيين. ولكن هل يكفي هذا التحديد للبدء فورا بإلغاء الطائفية؟

 

إن التدخل الطائفي في شؤون الدولة في لبنان لم يكن حدثا منفردا او ممارسة طارئة. انه سلوك مزمن متغلغل في جميع البنى السياسية والادارية، ويستند الى تراكمات هائلة تحمل عناوين الخوف والغبن والضمانات، او يتذرع بها، وهي عناوين تجد صدى لها في النفوس، مستمدا من ممارسة تاريخية، ومعززا بالحالة التي نشأت نتيجة التطبيق الكيفي لمقررات الطائف، وبأسلوب التداول السياسي لشعار إلغاء الطائفية السياسية.

إننا نلاحظ وجود حذر مشروع لدى الطوائف في لبنان من إلغاء الطائفية السياسية في الواقع الراهن، ونرى مع الكثيرين انه لا بد قبل الشروع في بحث الموضوع من توفير الاطمئنان العام من خلال استقرار الوضع على حال من التوازن والمشاركة والمصالحة الوطنية الفعلية التي تتسع للجميع، وإزالة ما تبقى من مظاهر التقسيم والنبذ والاقصاء.

بعد هذا لا بد لأي برنامج لالغاء الطائفية من ان يستهدفها في جذورها، وهذا لا يتحقق الا من خلال مرحلة انتقالية تاريخية يجري خلالها تأهيل الجماعات الطائفية عبر الحضور الفاعل للدولة – بمواصفاتها السليمة – وعبر الانتاج الدائم للمثالات المشتركة، وتقديم الدليل العملي على ان الصالح الخاص بالمنظور النهائي مؤمن في الصالح العام. هذا بالاضافة الى تطوير المجالات المحررة من القيد الطائفي والتي يعبر اللبنانيون بواسطتها عن مصالحهم من خلال موقعهم في عملية الانتاج.

إن الاطمئنان المطلوب لا ينتجه خطاب او موقف او مجرد دعوة مخلصة الى وجهة صحيحة، وانما هو حالة تتأتى من معيش يكتسب تدريجيا صفة الثبات والدوام، ويمنح الطرح صدقية يمكن الركون اليها، في واقع لبناني بات يمتلك حساسية شديدة تجاه المضمرات.

7 – الديموقراطية اللبنانية:

إن الديمقراطية التي نشأت في لبنان ونمت، وسمحت لهذا البلد ان يكون طليعيا على غير صعيد، هي وليدة عوامل عدة يأتي في مقدمتها التعدد الطائفي والاعتراف به: اعتراف الطوائف بعضها بالبعض، واعتراف الدولة بالطوائف، والاقرار بحق الاختلاف الذي هو اساس الديموقراطية، الأمر الذي شكل حاجزا واقيا منع قيام السلطة الديكتاتورية تحت شعار السلطة الوطنية القوية على مجتمع موحد قسرا، كما جعل من محاولات تسلل الحكم العسكري او الاستئثار بالسلطة مجرد محطات عابرة في تاريخ لبنان الوفاقي.

هذا التعدد والتنوع التكويني في المجتمع اللبناني سمح بانفتاح مبكر وتلقائي على الوافد الثقافي الديموقراطي (مع التحفظ عن بعض جوانبه) وجعل منه عنصرا رديفا لعنصر التعدد واحترام حدوده.

ومن جهة ثانية، استطاعت التجربة اللبنانية ان تحقق تنمية اقتصادية اجتماعية مميزة سمحت بنشوء اوسع طبقة متوسطة نسبيا من بين بلدان المنطقة، أنيط بها الجانب الاساسي من مهمة اقامة السلم الاجتماعي والمحافظة على توازنه واحتضان قيم الديموقراطية والحريات. ولقد بات واضحا ان الحاجة والفقر يدفعان بالديموقراطية – كقيمة ودينامية علاقات اجتماعية – الى درجة متدنية في سلم اهتمامات الناس والمجتمعات، في حين ان الكفاية تطلق التطلعات الديموقراطية وتجعل من الديموقراطية حاجة اجتماعية لا غنى عنها.

ولا يدعي احد أن تطبيق صيغة الاعتراف بالاخر كان سليما على الدوام في لبنان، وبالتالي فان الديموقراطية اللبنانية لم تبرأ من الشوائب، خاصة في ظل ضعف المؤسسات وسيادة العقلية الفردية التي كانت تجنح بالديموقراطية في كثير من الاحيان باتجاه الحرية المنفلتة. غير ان علة وجود الديموقراطية في لبنان، وهي التعدد والتنوع واحترامهما، تبقى الاساس الذي نتمسك به، مع ضرورة تحصينها بتوفير سائر شروط تمكنها ونمائها.

إن الديموقراطية في لبنان جزء من مفهوم الوطنية وليست مجرد مفاعل اجتماعي، وهذا ما يعبر عنه اللبنانيون عادة بأن لبنان والحرية متلازمان. ولا نجد أية مبالغة في إعتبار  ضرب الديموقراطية مؤشرا خطيرا لضرب الصيغة الوطنية اللبنانية، كما ان ضرب الصيغة الوطنية القائمة يجعلنا – في الشرط المجتمعي اللبناني – نفتقد اساسا مهما لا غنى عنه لاقامة الديموقراطية.

إن الديموقراطية اللبنانية في اللحظة الراهنة تمر بأصعب حالات الحصار والامتحان، حيث تألبت عليها عوامل انتقاص السيادة الوطنية وضعف القرار الوطني المستقل، كما حاصرتها سطوة اتجاه الاستتباع ومفاعيل التفتت اللبناني من جراء الحرب وضرب المؤسسات والافقار العام.

وعلى الرغم من ذلك كله، ما زالت الديموقراطية اللبنانية تعبر عن نفسها بكثير من الاشكال، مقدمة نموذجا حيا للمانعة في المجتمع المدني اللبناني وشاهدا على تأصلها في البنية اللبنانية. إن هذا الامر يستدعي استنفار للإرادات الوطنية من أجل حماية الديموقراطية في سبيل حماية الصيغة الوطنية اللبنانية.

لقد طالما شهدنا من حولنا – في الواقع والممارسة- تعريفات للاوطان تختصرها بحدي السلطة والحدود القانونية، مسقطة المواطن / الانسان من المعادلة (باسقاطها للديموقراطية والحريات) بعد ان اسقطت حق المجموعات المختلفة في التعبير عن نفسها، وبعضها ذهب بعيدا الى حد إعتبار السلطة (سلطته) اختصار للوطن والشعب اذا سلمت هذه السلطة سلم الوطن والشعب والامة! ونعتقد أن لبنان المعنى يشكل دحضا حقيقيا لتلك التعريفات والاتجاهات الاستبدادية.

خامسا: إتفاق الطائف

بناء الدولة والعلاقات اللبنانية السورية

- شكل إتفاق الطائف عند توقيعه إتفاق الحاجة والضرورة: حاجة اللبنانيين الى وقف التناحر الداخلي ووقف حرب لم يكونوا قادرين على الاستمرار في دفع اكلافها، في لحظة كانت الحرب قد استهلكت جميع القوى المتصارعة، وفي ظل غياب كامل لمشروع وطني او لقوة داخلية مؤهلة لأخذ المبادرة باخراج البلاد من الهاوية التي كانت فيها. كما جاء الاتفاق عند استنفاد الحرب لأهم أغراضها على الساحة اللبنانية، وتلبية لرغبة او إرادة دولية (اميركية) ومن ثم إقليمية عبرت عن حاجة للانصراف الى مسارات اساسية في المنطقة، في اطار توجه اميركي اتخذ بعد ذلك عنوان "النظام العالمي الجديد" على قاعدة متغيرات كبرى سوف تتمثل اساسا بسقوط الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج وعملية المفاوضات. وبهذا المعنى كان "الطائف" ضرورة واستحقاقا لا مهرب منه بالنسبة للبنانيين.

ولكن هل يكفي هذا لقراءة اتفاق الطائف واتخاذ موقف منه سلبا او ايجابا؟ نعتقد ان الاكتفاء بذلك هو تبسيط للأمر لا يوصلنا الى استنتاجات كافية.

إن مضمون الطائف وبنوده جاءت لتكرس جملة من الامور هي في اساسيات اي اتفاق لبناني للخروج من الأزمة، بصرف النظر عن العوامل الخارجية التي احاطت بالاتفاق ولابسته.

فقد اعترف "الطائف"، للمرة الاولى بصورة واضحة، بالطابع النهائي للكيان اللبناني، وأكد ضرورة استعادة الدولة لسيطرتها على كامل الاراضي اللبنانية بقواها الذاتية وانسحاب جميع القوات الاجنبية. ومن جهة ثانية كرس الاتفاق انتماء لبنان الى العالم العربي، ومنح المسلمين توازنا جديدا في السلطة.

وتكمن أهمية اتفاق الطائف هنا في انه تصدى لجانب اساسي من الاسباب الداخليةالعميقة للصراع، والتي كانت تسهل الطريق امام التدخلات الخارجية في الشؤون اللبنانية.

واذا اضفنا الى ذلك ما لحظه اتفاق الطائف من إصلاح سياسي واداري، وتأكيد على الديمقراطية والحريات والعدالة والتوازن، والتمسك بالنظام الاقتصادي الحر، وتوسيع المشاركة الشعبية في السلطة عبر المجلس الاقتصادي الاجتماعي واللامركزية الادارية، فإننا نرى أنه جاء تعبيراً عن الخلاصات الأساسية لمجمل الحوارات اللبنانية السابقة حول الاصلاح وانهاء الحرب واعادة بناء الدولة منذ "الوثيقة الدستورية" حتى تاريخه. وهو بهذا المعنى لم يأتي من فراغ او من مستند خارجي فرض على اللبنانيين نصوصا من غير صنعهم وتوافقهم.

- إن ما تقدم يحتاج ايضا الى كلام آخر صريح:

لقد انعقد اتفاق الطائف بين اللبنانين في إطار "تسوية" مسيحية اسلامية تمثلت بقبول المسيحيين الاصلاح السياسي والتوازن في السلطة والحكم مقابل التأكيد على سيادة لبنان وإستقلاله ونهائية كيانه وانسحاب القوات الأجنبية، وهذا الامر اشارت اليه "الضمانة العربية" للإتفاق والتي تمثلت بتعهدات اللدجنة الثلاثية. واذا كانت هذه "التسوية" قد بدت "مقايضة" ضمنية، فانها صحيحة وواقعية.

والحال ان حرب الخليج قد اسقطت – من بين ما اسقطته في المنطقة – الضمانة العربية لتطبيق الشق المتعلق بالسيادة من اتفاق الطائف. ولا بد من المصارحة بأن المسيحيين يشعرون بهذا الصدد انهم قدموا ما توجب عليهم في "صفقة التسوية" في حين لم يحصلوا على المقابل!

إن هذا الشعور مفهوم وله مبرراته، وقد ترتب عليه سلوك سلبي، خصوصا ازاء ما ظهر في بعض المواقع الاسلامية من نزعات استقواء وادعاء غلبة.

إن هذه المسألة الدقيقة تحتاج الى حوار صريح وعميق بين طرفي التسوية اللبنانيين، يبنى على الوقائع والمعطيات، ولا يكتفي بتسجيل المواقف المبدئية، وصولا الى صياغة موقف تضامني مدروس وغير إنفعالي. ونعتقد ان على هذا الحوار ملاحظة بعض الاسئلة، نحو:

1 – هل المسلمون في الواقع هم الذين اخلوا بشروط هذه "التسوية" أم أن الخلل يأتي من خارجهم؟

2 – هل المسلمون في موقع غلبة حقيقي أم وهم غلبة؟ أو ليس المسلمون والمسيحيون متساوين في "المغلوبية"؟

3 – هل السلبية المسيحية العامة هي الموقف السليم في مواجهة التحدي؟

4 – هل يجوز الاستمرار في ذهنية "ليتدبر كل طرف أمره"، وهل المشكلات الداخلية التي يعاني منها كل طرف هي شأن خاص به؟

- إننا نعتقد ان الاتفاق اللبناني، لكي يستطيع الانتقال الى حيز الترجمة الفعلية والصحيحة، يحتاج الى "عملية تضامنية" في ما بين الشريكين، بحيث تكون المطالب المحقة لكل طرف – والمتفق عليها – في موضع التبني من الطرف الآخر. فمطلب التوازن والمشاركة لا يجوز ان يبقى شعارا اسلاميا خاصا، وكأنه مرفوع في وجه المسيحيين، وانما يجب ان يدعمه المسيحيون ليتحول الى شعار مرفوع باتجاه تحقيق اقتراب من العدالة التي هي مطلب الجميع. كذلك فإن شكوى المسيحيين من إحساس بغبن مستجدّ وتخوف من إتجاهات يمكن أن تستبدل غلبة بأخرى، لا يجوز أن يبقى حالة مسيحية خاصة لا يتحسسها المسلمون ولا يساهمون في إزالة أسبابها الواقعية او المفتعلة. كما ان موضوعة السيادة لم يعد جائزا النظر اليها من موقعين مختلفين.

إن اي اتفاق في العمق يستدعي "تضامنا" في ما بين المتفقين حتى يستطيع كل طرف مواجهة التحديات في ساحته الخاصة، وحتى يستطيعوا مجتمعين مواجهة التحديات ذات المصدر الخارجي.

-         ما هي المشكلات التي نشأت عن إبرام الطائف، وتلك التي رافقت تطبيقه؟

1 – في البداية نؤكد ان الانقسام الذي حصل بين مؤيد للطائف ومعارض له – بالأشكال المتطرفة والعنيفة التي عبر ذلك الانقسام عن نفسه بواسطتها – شكل اهدارا كبيرا للطاقات اللبنانية واضعافا للقدرات على التعامل الناجح معه، يستوي في ذلك المعارضون والمؤيدون. إن خبرات العمل السياسي المتقدم في ادارة الصراع المشروع  تؤكد على أهمية استخدام الاتجاهات المختلفة والمتباينة في التعامل مع المشكلة الواحدة،  في حال توافر إجماع على الهدف الوطني الحقيقي، الامر الذي غاب عن آلية وأفق الصراع الذي حصل حول الطائف. وبهذا الصدد نستطيع ان نلاحظ كيف أن القوى المعنية باستمرار ضعف الفاعلية الوطنية اللبنانية دفعت باتجاه تعزيز هذا الفرز بين "مع وضد" بثنائية صارمة، مستفيدة في الواقع من طرفي الثنائية.

إن التعامل مع الطائف منذ البداية على قاعدة الانقسام والاستقطاب والفرز المتسرع افقدنا جزءا كبيرا من أهليتنا، ودفعنا ثمن ذلك غاليا بالجملة والأفراد.

2 – إن المشكلات الحقيقية في نظرنا تواجد في مجال تطبيق إتفاق الطائف ومسيرة هذا التطبيق.

والخلل الاساسي في ذلك يكمن في ان اداة تطبيق الطائف لم تكن مؤهلة لهذه العملية الكبرى والدقيقة، بحيث جاء التطبيق مزاجيا ومجتزأ ومجافيا في كثير من الاحيان للغايات المتفق عليها والتي يعبر عنها بروح الطائف:

إن الشرط الاساسي والضروري للانطلاق في تطبيق الطائف، كما لحظه الاتفاق نفسه، هو وجود اداة سياسية وطنية متوازنة، تؤمن مشاركة  الجميع في الولوج الى المرحلة الجديدة وتحمل اعبائها. والذي حدث ان التطبيق سارع الى انتاج اداة (مجلس نيابي وحكومات متوالية) تفتقد الى الكثير من الصدقية في تمثيل الواقع السياسي والشعبي اللبناني، فضلا عن إقصاء متدرج لبعض القوى التي ساهمت في تأمين تغطية سياسية او وطنية للطائف منذ البداية,. لقد ضربت الحكومات المتتابعة عرض الحائط بمسألة المشاركة الفعلية والتوازن، فجاءت ممثلة لطرف واحد، بدل ان تكون حكومات وحدة وطنية، فعززت بذلك القناعة بأن هذا الاتفاق يطبق على أساس غالب ومغلوب، وهو أمر لا يجهل، أحد خطورته في الحالة اللبنانية، لأنه يؤسس دائما لعناصر التفجير.

إن تطبيق الطائف لهذه الناحية يعمل على إنتاج "طبقة سياسية جديدة" في مواقع السلطات المختلفة، تتميز بهجانتها، وبإنفصالها عن المجتمع، وبعدم قدرتها على تلبية احتياجات مرحلة السلم الأهلي وإعادة البناء، هذه المرحلة التي تستدعي حشد جميع طاقات المجتمع السياسي والمدني، والتخلي عن عقلية "القطار الماشي"، وفي وقت يتطلب وجود كفايات سياسية وطنية استثنائية على رأس المرحلة، قادرة على مواجهة مشكلات أنتجتها الحرب الأهلية، ومواجهة تحديات غير عادية تطرحها المتغيرات التاريخية الجارية في المنطقة.

إن جانباً أساسياً من الحوار اللبناني في هذه المرحلة يجب أن ينصب على كيفية استدراك الأخطاء والثغرات في مسيرة اتفاق الطائف، ضمن معادلات صعبة، ولكن لا مفر من تأمينها، مثل:

1 - دعم قيام الدولة ومؤسساتها، مع الضغط الدائم باتجاه تصحيح الخلل في بنيتها ومسارها.

2 - عدم الاستكانة إلى النتائج التي ترتبت على التطبيق المتعسف للطائف (كنتائج الانتخابات النيابية)، مع الحرص الشديد على عدم قيام أزمة حكم قد تعيد تجديد الصراع الأهلي.

3 - التمسك بالسيادة الوطنية ومستلزماتها، مع رؤية واضحة لتعقيدات الصراع في المنطقة، ووعي الحدود الدقيقة الفاصلة بين العدو والحليف، بين التحالف والتبعية، بين التمايز والتناقض، وبين الاستقلال والانعزال.

- إن مسيرة السلم الأهلي وإعادة البناء وقيام الدولة ما زالت تعاني من ثغرات أساسية، لعل أهمها:

أ - الالتباس في ممارسة السلطات:

1 - فعلى صعيد رئاسة الجمهورية، حدد دستور الجمهورية الثانية دوراً للرئيس يقضي بأن يكون حكماً ومرجعاً ورمزاً للوحدة الوطنية وساهراً على حراسة الدستور، في حين رأينا أن رئاسة الجمهورية انزلقت في كثير من الأحيان إلى مشاركة رئيس الحكومة في إدارة شؤون السلطة التنفيذية، الأمر الذي جعلها تتحمل مسؤولية الأزمات الاجتماعية والسياسية، وعطلت دورها كحكم ومرجع في البحث عن الحلول الملائمة، وأصبحت المطالبة بتغيير الحكومة تطال في بعض الأحيان - وبمعنى من المعاني - مقام رئاسة الجمهورية.

2 - وعلى صعيد رئاسة الحكومة، فإن الدستور أناط السلطة التنفيذية بمجلس الوزراء وليس برئيسه. فالمجلس يشكل قيادة جماعية تتولى بشكل متضامن إدارة شؤون البلاد. وهذا الأمر لم يحترم بشكل كاف، مما سمح بتفجير أزمات متلاحقة داخل الحكم.

3 - أما على صعيد دور رئيس المجلس النيابي، فقد حصل منذ إقرار الطائف تداخل بين صلاحيات الرؤساء الثلاثة أدى إلى اعتماد ما سمي بنظام "الترويكا"، حيث بدا أن السلطة التنفيذية موزعة بشكل عشوائي بين الرؤساء، مما عطل دور مجلس النواب إلى حد بعيد.

3 - وعلى صعيد السلطة القضائية، فإن القضاء لم يبرز كسلطة دستورية مستقلة توازي وتوازن السلطتين الاشتراعية والتنفيذية وتضمن الحريات العامة والخاصة. وقد مارست الحكومات المتوالية تدخلاً سافراً في شؤون القضاء وضغطاً على الحريات العامة. إن تمتين مبدأ الفصل بين السلطات لا يزال يفتقر إلى المزيد من الخطوات.

ب - في عودة المهجرين:

إن هذه المسألة أساسية في مسيرة السلام، لأنها تتعلق بإعادة تكوين بنية طائفية مشتركة، فضلاً عن كونها ترتبط بحق وطني إنساني قانوني لا يمكن تجاوزه. فعودة المهجرين لا تشكل مرحلة أخيرة من مسيرة السلام، بل هي شرط لسلامة هذه المسيرة.

إن عودة المهجرين جميعاً مسألة وطنية تتجاوز السياسة، كما لا يجوز حصر طرحها من باب الإمكانات المادية. ولقد أعارت الدولة هذه المسألة جانباً من الاهتمام، غير أنه لم يكن كافياً لأن العقدة الأساسية فيها مرتبطة بموضوعة المصالحة الوطنية والاطمئنان الوجودي - وليس فقط السياسي- لإطار العيش المشترك، فهل يمكن التمادي في إهمال المصالحة وعودة المهجرين والادعاء في الوقت نفسه أننا دخلنا مرحلة السلم الأهلي والبناء؟

إن تأمين عودة سريعة وكريمة للمهجرين هو من أولويات مسؤولية الدولة. غير أن هذا الأمر - في الواقع الراهن - يتجاوز فعالية الدولة في بعض المناطق (مثل الجبل) ويستدعي جهداً وطنياً استثنائياً من قبل القوى المعنية مباشرة، على الدولة دعمه بقيامها بواجبها في تفعيل المصالحة الوطنية وتأمين مستلزماتها.

ج - في الإصلاح الإداري:

إن حاجة الدولة إلى الإصلاح الإداري هي اليوم أشد ما تكون عليه، إذا أرادت أن تعالج سبباً من الأسباب العميقة التي أدت إلى انهيارها خلال الحرب. فالإدارة هي همزة الوصل بين الدولة والمواطن، وهي مكان يتم فيه إنتاج ولاء للدولة والمجتمع.

والإدارة اللبنانية كانت في معظم الأوقات حقلاً لإنتاج الولاءات الضيقة، الطائفية والشخصية، فتحول الموظف إلى خادم عند الحكام يمثل ويخدم جماعة دون أخرى، مما ولد شعوراً لدى المواطن بأنه ضحية تمييز غير مبرر يبحث عن أسبابه في الصفة الطائفية للموظف، وبالتالي فقد المواطن ثقته بالدولة وإدارتها.

وأمام الدولة اللبنانية في هذه المرحلة فرصة تاريخية لاجتذاب ولاء المواطنين الذين اختبروا أكلاف انهيار المؤسسات خلال الحرب، وباتوا مهيئين أكثر من أي وقت مضى للتوجه نحو الدولة إن هي أحسنت التأسيس لعلاقة سليمة مع المواطن من خلال الإدارة.

إن الحكومات التي انبثقت عن الطائف تبدو أبعد ما يكون عن تحسس هذه المسألة الخطيرة. وهي إلى ذلك عملت على إهدار ما تبقى من مكتسبات في هذا الشأن، فعطلت المسالك الطبيعية للتوظيف والتدرج، وأغرقت الإدارة بموجات متلاحقة من التوظيف على قاعدة ولاءات الحرب. وقد جاءت التعيينات الأخيرة في وظائف الفئة الأولى لتشكل ضربة موجعة لمشروع بناء الدولة وقطعت الطريق على القطاعات الحديثة في المجتمع في عقد ولائها لدولة ترى فيها مشروعاً يستحق التضحية من أجله.

د - في تأمين المشاركة الشعبية في السلطة:

كان النظام اللبناني يفتقر دائماً إلى القدرة على استيعاب المتغيرات الحاصلة في المجتمع. فاللبنانيون الذين تمتعوا بقدر كبير من الحريات الفردية كانوا محرومين من حق المشاركة في إدارة شؤونهم. وكان دورهم السياسي يقتصر إلى حد بعيد على المشاركة كل أربع سنوات في الانتخابات النيابية. وفي هذا المجال يلحظ اتفاق الطائف إجراءات عدة أهمها اثنان: اعتماد اللامركزية الإدارية التي تساعد على إيجاد تمايزات

 

سياسية تحل محل الانقسامات الطائفية والعشائرية الحالية، ومن جهة ثانية أقر إنشاء المجلس الاقتصادي الاجتماعي الذي يمثل مجالاً للمشاركة محرراً من القيد الطائفي يتمثل فيه اللبنانيون بحسب موقعهم في عملية الإنتاج.

يبدو أن مرور حوالى أربع سنوات على إبرام الطائف ليست كافية في نظر الدولة لإطلاق هذه الفاعلية الاجتماعية!

إن تطبيق اتفاق الطائف ما زال بعيداً عن المسار الصحيح في غير مجال، وهو بحاجة إلى تطوير بعض بنوده، وتقديم التفسير الصحيح لبعض البنود الأخرى، فضلاً عن ضرورة تطبيق ما لم يطبق منه (مثل إعادة تمركز القوات السورية) وتصحيح الخلل في بعض ما طبق على نحو تعسفي (مثل الانتخابات النيابية).

ولقد أثبتت التجربة أيضاً أن عملية إعادة بناء مؤسسات الدولة والنهوض الاقتصادي لا يمكن فصلهما عن القرار السياسي وتوازنه.

ويبقى السؤال الأساسي: أين هي القوى السياسية القادرة على حمل مشروع اتفاق الطائف وترجمته في الواقع اللبناني وأين هو مستنده الاجتماعي الثابت؟

إن بلورة تضامن وطني جريء، جامع غير اختزالي، في إطار حوار صريح وواقعي، على قاعدة التمسك بتطوير حالة السلم الأهلي والخروج من مفاعيل الحرب وقطع الطريق على ما يعيد إنتاجها، كفيل بتكوين حالة وطنية قادرة على التعامل مع الإشكاليات القائمة وإطلاق لغة سياسية ونخبة جديدتين أكثر أهلية وكفاءة.

- في العلاقات السورية اللبنانية:

إن إعادة بناء الدولة اللبنانية تبقى مرهونة إلى حد بعيد بقدرة اللبنانيين على بناء علاقات تعاون ثابتة ومتوازنة مع سورية، وهذا ليس بالأمر السهل نظراً للتوتر الذي وسم العلاقات بين البلدين الشقيقين منذ الاستقلال، وللتعقيدات الجديدة التي أضافتها تجربة تطبيق اتفاق الطائف، بعد أن باتت القراءة السورية لهذا الاتفاق هي الوحيدة المعتمدة لتفسيره وتحديد أولوياته والتحكم بوتائر تطبيقه.

إن العلاقات اللبنانية السورية - استناداً إلى روح الطائف - بحاجة إلى قيام معادلة تؤمن الحاجة السورية المشروعة لضمان أمنها واستقرار نظامها، والحاجة اللبنانية الشرعية لبناء الدولة وقيام سلطة صاحبة قرار مستقل. هذا بالإضافة إلى ضرورة وجود موقف تفاوضي منسق ومتكامل بين البلدين يؤمن المصالح الوطنية العليا لكل منهما.

إن هذه المسألة، من حيث المبدأ، لا تشكل عامل انقسام بين اللبنانيين. غير أن النص بحد ذاته والاتفاق المبدئي لا يؤمنان حاجة ولا يحققان معادلة، إذا لم يرتكزا إلى عنصر الثقة المتبادلة والممارسة المنسجمة مع غاية الاتفاق.

إن الثقة لا تنشأ من مجرد إعلان النوايا، وإنما من السلوك. وبالتالي هي مسار لا قرار. وهي أيضاً تبنى على القناعة ومعاينة المصلحة المشتركة، لا على الإكراه وأحادية المصلحة.

إن مسار العلاقات السورية اللبنانية ما يزال يفتقد إلى قدر كبير من الثقة، وينطوي على سلوكيات يمكن أن تؤسس لحساسية سلبية متنامية قد تطيح - عند تغير الظروف وتبدل الموازين - كل ما يسعى إليه المخلصون من اللبنانيين والسوريين.

إن مسؤولية الخلل في مسار العلاقات لا يمكن إلا أن تقع على السلطات السورية واللبنانية في آن معاً، كونها المسؤولة عن وجهة المسار ومضمونه، فالرعاية السورية لتطبيق اتفاق الطائف - بالطريقة التي مورست بها ـ سمحت ببروز طابع الغالب والمغلوب في الوضع الداخلي اللبناني، وطابع الوصي والقاصر في العلاقة بين السلطتين، مما أدخل على التركيبة اللبنانية ذات التوازن الدقيق تغييرات لم يتمكن اللبنانيون من التكيف معها، ولم يتم استدراك الأمر حتى الآن.

أما من جهة السلطات اللبنانية، فإنها لم تستطع الارتقاء إلى مستوى من المسؤولية يفرضه الظرف التاريخي الذي يمر به لبنان، فتصرفت تصرف الممثل لفئة من اللبنانيين، وأظهرت قدراً كبيراً من اللامبالاة تجاه حاجة لبنان إلى جميع قواه من خلال مصالحة وطنية حقيقية، وتسببت بحالة انفصام بين الدولة ومجتمعها، مما أضعف الدولة وأفقدها الأهلية في مواجهة المشكلات الأساسية وفي إقامة علاقات مع الدولة السورية على نصاب سليم، وبدل أن تسعى الدولة اللبنانية إلى ردم الهوة بينها وبين المجتمع، تحكمت المصالح الأنانية بالكثير من رجالاتها، وانصرفوا إلى توظيف الموقع السوري في الصراع الداخلي والعمل على فرز اللبنانيين بين مؤيد لسوريا ومعاد لها.

إن هذه السياسة ضيقة الأفق وتفتقد إلى القدر الكافي من الإحساس بالمسؤولية، فضلاً عن مجافاتها للواقع. فالمسألة بالنسبة لمعظم اللبنانيين هي: ما هي السياسة الصحيحة التي تؤمن المصالح الحقيقية للبنان وسوريا، كبلدين شقيقين في دولتين مستقلتين، لكل منهما سيادتها غير المنقوصة، ولكل منهما حق على الآخر في مراعاة أمنه واستقراره والمصالح المشتركة؟

إن هذا الموضوع الدقيق يحتاج إلى التأكيد على المسلمات التالية:

1 - إن أمن سوريا واستقرارها عاملان أساسيان لأمن لبنان واستقراره، كما تشهد على ذلك تجربة لبنان منذ الاستقلال.

2 - إن التعاون والتكامل بين البلدين لا يتطلب تطابقاً في أنظمتهما السياسية والاقتصادية.

3 - إن الدولة اللبنانية القوية المتصالحة مع مجتمعها والممثلة لقواه الحقيقية هي الضمانة لعلاقات لبنانية سورية ثابتة ومستقرة.

4 - إن تصحيح مسار العلاقات بين البلدين وتطويرها يتطلب توفير عامل الثقة والقناعة الذي يسمح وحده بالتوفيق بين حاجاتهما.

5 - إن العلاقات الصحيحة بين البلدين ينبغي أن ترتفع إلى مستوى المؤسسات وتخرج من التوظيف السياسي الفئوي.

وإلى هذه المسلمات، تضاف مسألة بالغة الأهمية تتعلق بالآفاق التي بدأت ترتسم في المنطقة جراء المفاوضات العربية الإسرائيلية، فمرحلة "السلم العربي الإسرائيلي" المفترضة ستجعل لبنان وسوريا معرضين لمنافسة خطيرة، وهذا الأمر يستدعي الإسراع في رسم سياسة لبنانية سورية مدروسة، خصوصاً على الصعيد الاقتصادي، حتى لا يتحول اللبنانيون والسوريون إلى مجرد أدوات استهلاكية مرتبطة بالحافلة الإسرائيلية. كما أن النتائج المتسارعة للمفاوضات تحتم رسم سياسة للعلاقات لا تقوم على الظرفية والتحايل على الاستحقاقات بقدر ما تقوم على استيعاب عميق للمرحلة التي دخلت المنطقة فيها والتي سوف تطرح تحديات ذات طبيعة مختلفة عن طبيعة التحديات السابقة وأكثر صعوبة منها.

إن هذا الامر يستدعي اشراك اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم في بلورة صورة العلاقات المستقبلية بين البلدين، وينبغي عدم تفويت الفرصة التي ما تزال متاحة.

سادساً: الاحتلال- المقاومة - المفاوضات

وتحديات المرحلة القادمة

شكّل وجود إسرائيل على الدوام عامل إقلاق وتحدّ خطرين بالنسبة للبنان المعنى والدور، فضلاً عن أخطاره المعروفة على المنطقة بكاملها وجاء تدخلها في الاوضاع اللبنانية منذ العام 1975، ثم احتلالها لجزء من الأرض، ليشكلا تهديداً حقيقياً للكيان والدولة والمجتمع، نظراً للتركيبة اللبنانية الخاصة.

إن الاختراقات الإسرائيلية وضعت المشروع اللبناني برمّته على حافة الهاوية، في ظل حرب أهلية، وتمركز للصراعات على أرضه، وضعف وتفكك عربيين هما الأبرز في تاريخنا الحديث. وقد أظهرت التجربة أن قدرة إسرائيل التخريبية في لبنان كانت دائماً متناسبة تناسباً طردياً مع اهتزاز الوحدة الوطنية ومع ضعف المناعة العربية العامة.

ومن جانب آخر، فإن النجاحات التي حققتها التجربة اللبنانية قبل الحرب، على غير صعيد وفي أكثر من ميدان، استمدت مقوماتها من صيغة لبنانية في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، نقيضه لمعنى إسرائيل ودورها، مميّزة في محيطها، ومستندة في الوقت عينه الى المدى الحيوي العربي الواسع. ولا شك أن الصمود العربي التاريخي في وجه إسرائيل ـ بالرغم من ثغراته ونقاط ضعفه التي لازمته ـ شكّل جداراً واقياً للتجربة اللبنانية. وإذا كان ثمة من يرى أن لبنان حقّق "مكاسب" خاصة من اعتزاله المستوى العسكري للصراع العربي الإسرائيلي، فإن هذا لا ينفي حقيقة أنه كان موضوعياً في قلب الصراع الحضاري المصيري بكل أبعاده ومضامينه العميقة.

إن مقاومة إسرائيل، بالمعنى الحضاري الشامل للمقاومة، كانت في الحقيقة عنصراً لازماً في المشروع اللبناني، خصوصاً بعد العام 1948، نظراً للتناقض المبدئي والمصلحي بين الكيانين، وهو أمر تنبّه إليه باكراً عدد من رواد المشروع اللبناني من مسيحيين ومسلمين، ثم ما لبث أن نسيه أو تناساه كثير من اللبنانيين.

وتحت وطأة الحرب الأهلية بآلياتها ومساراتها المتداخلة الملتبسة، وبسبب قصر نظر لا يبرأ من اتهام، كما لا يُعفى منه أي طرف من أطراف النزاع الداخلي، انحرف مفهوم التصدّي اللبناني للخطر الإسرائيلي لينحصر في فئة محدّدة، ثم في شعبة من هذه الفئة، وفي معظم أدواره بقي أسير شعارات ضيقة وشكل أحادي هو العمليات الفدائية المحدودة الأثر على المحتل، ذات مصادر التوجيه المتعددة، والموظفة غالباً في مشروعات وتكتيكات لم يستطع لبنان أن يكون شريكاً حقيقياً في أي منها لأكثر من سبب، فضلاً عن تجاوزها حدود قدرته على الاحتمال.

إن مسيرة الأحداث على امتداد السنوات العشرين الماضية، بأبعادها ونتائجها اللبنانية والإقليمية والدولية، وما آلت إليه من أحادية في قيادة العالم، ومن اتجاه نحو ترتيبات يعبّر عنها بـ "النظام الدولي الجديد"، كل ذلك أدخل المنطقة العربية ـ بما فيها لبنان ـ في مسارات جديدة أبرز عناوينها "مفاوضات السلام" وما بدأ يترتب عليها من نتائج عملية مباشرة واستراتيجية مستقبلية. وهذا "السلام" هو سلام ضرورة، لا يبدو أن المنطقة قادرة على رفضه في الوقت الراهن أو المستقبل المنظور. غير أن ذلك لا يجوز أن يعني الاستسلام لشروطه المجحفة دون ممانعة تضع حدوداً للخسائر والمخاطر المستقبلية. وتؤسس لفرصة تاريخيّة آتية يُخاض فيها الصراع من جديد وفي شروط مختلفة.

إن عنوان "السلام" الموعود يحمل ـ بالنسبة للبنان خصوصاً ـ مضامين صراعية تنافسية مصيرية، هي أشد خطراً من المضامين السابقة التي اندرجت تحت عنوان الصراع العربي الإسرائيلي المكشوف ومحوره الأساسي القضية الفلسطينية. ولعلّ احتلال جزء من الأرض لم يعد يشكّل الخطر الأعظم قياساً بالمخاطر المنظورة، رغم الأولوية المطلقة لهدف إزالة الاحتلال. واللبنانيون متهيئون، ربما اكثر من غيرهم، لإدراك طبيعة هذه المخاطر على مستقبلهم، والمستقبل العربي، لأنها تتصل بمعنى وجود لبنان ودوره.

فإذا افترضنا أن "السلام" القادم سيعيد الى لبنان أمنه وسلامة أراضيه، وينهي المواجهة العسكرية مع إسرائيل، فإنه يحتمل أيضاً أن يصبح لبنان مكشوفاً أمام خطورة انتزاع الدور الاقتصادي والثقافي والحضاري، وانتقال هذا الدور الى مساحة أخرى، او توزيعه على مساحات في المشروع الشرق أوسطي البديل من المشروع العربي الذي تعثّر على الدوام. وفي هذه الحال، يُخشى أن يتحوّل لبنان الى مساحة هامشية في خريطة المنطقة التي يُعاد رسم حركتها الإقتصادية السياسية الثقافية على محاور واتجاهات جديدة. وهذا الخطر المصيري على لبنان يستمد قوة إضافية من التفوق الإسرائيلي على أكثر الصعد، وانتماء هذا التفوّق الى مركز المعادلة العالمية المنتصرة بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، كما من هزيمة الوضع العربي وخروج لبنان مدمراً من حربه الأهلية.

وفي هذه المرحلة يخطئ فريقان من اللبنانيين:

1 ـ فريق يرى الى المرحلة القادمة على أنها تحمل الخلاص وتضع حداً لتاريخ الصراع في المنطقة، فيسقط مبدأ المقاومة من حسابه، واعداً نفسه بدور كبير في مشروع "الازدهار العام"!.

إن هذا الموقف مبني على أوهام وتمنيات أكثر من انبنائه على حقائق. ولعلّ أبرز الحقائق التي يتجاهلها هذا الموقف أن مرحلة الصراع الماضية كلها لم تنته إلا الى هزيمة موصوفة للوضع العربي، بما فيه اللبناني، وبما فيه الى حدّ بعيد المستويات الشعبية والنخبوية. والحقيقة الثانية هي أن السلام الموعود (بالمضامين التي يحدّدها المنتصر) لا يعني أكثر من ضمان أمن إسرائيل، وضمان سلامة المصالح الأميركية في المنطقة لأطول مدة ممكنة، من دون وجود أي وهم بشراكة محليّة أو دولية معها. فهل نصدّق أن أميركا سعت او تسعى لإقرار سلام يخلّص المنطقة من ضرائب الحروب والصراعات التناحرية ويضعها على طريق التنمية وازدهار قيم السلم والحرية والعدالة بشراكة مصالح متبادلة متوازنة؟

2 ـ ويخطئ فريق آخر من اللبنانيين حين لا يستطيع رؤية المتغيرات والشروط الجديدة للصراع، فيبقى متمسكاً بشعارات وأساليب ليست، ولم تكن، كافية، حيث لم تستند الى مفهوم عميق شامل للصراع والى وحدة وطنية في جبه التحديات. ولعلّ أخطر ما في تفكير هذا الفريق توهّمه بأنه يستطيع، بأدواته المحدودة وساحته الضيقة، قلب معادلات عنيدة تقف وراءها قوى غير عادية، يساعدها إهتراء غير عادي في أوضاعنا الذاتية. إن هذا التفكير هو الابن الطبيعي للمنهجيات التي قادت إخفاقاتنا المتلاحقة؛ وهو بحكم تكوينه ومجانيته للواقع قابل للانتقال ـ من دون أن يدري ـ من ادعاء التمسّك الصارم بكامل الحقوق والأهداف والآمال المشروعة الى التفريط العملي.

إن كلاً من هذين الاتجاهين اللبنانيين له معادل على نحو ما في البلدان العربية، ما يعني ان الحاجة الى تصحيح مسار التفكير والنظر الى الأمور هي حاجة عربية واسعة. ولا ريب أن أي تقدم تحققه المجتمعات العربية في توفير مقومات المواجهة، خصوصاً في محيطنا الأقرب، سوف ينعكس إيجابياً على أوضاعنا في لبنان.

وقد يراهن البعض في لبنان على أن السلم القادم سوف يتيح له إستعادة غلبة مفقودة تمكّنه من الانقلاب على كل ما تحقق. ولعلّ هذا النوع من التفكير المشدود الى مرحلة الحرب هو الأشد خطراً لأنه يعتمد الآليات التي تعيد إنتاج الحرب الأهلية وتدمّر ما تبقّى.

وقد يراهن فريق آخر على التأسيس لغلبة جديدة مع شريك لم يعد يتمتّع بكامل مؤهلاته التاريخية، وآخر لن يستطيع الحفاظ على كامل نقاط قوّته الراهنة مع دخول المنطقة في مرحلة السلم.

نعتقد أن هذه الاتجاهات الخاطئة ـ سواء المستسلمة للأوهام الزائفة، او تلك المكابرة، او المتربصة ـ لا تمثل واقع المجتمع اللبناني ولا تعبر عن مصلحته الكلية الجامعة، وإن بدت أحياناً ذات نبرة عالية في بعض المواقع أو الظروف الملتبسة. إن رهاننا الوطني يبقى على الأكثرية العظمى من اللبنانيين التي خرجت من الحرب بالدروس والعبر الكافية، والتي تبدي استعدادات متنامية لمواجهة المرحلة القادمة بروح عالية من المسؤولية والحرص والواقعية. وفي الوقت نفسه لا يجوز إسقاط الرهان على جدوى الحوار، وإمكان المراجعة وضرورتها.

وفي تحسّبنا للآتي، لا بد لنا من الحذر الشديد من احتمال أن تكون منطقتنا مقبلة على مزيد من الصراعات الداخلية تحت عباءة السلم العام وحل النزاعات الإقليمية: حروب داخلية بأشكال وعناوين مختلفة، بين الأنظمة ومجتمعاتها، وفي ما بين قوى المجتمعات نفسها انطلاقاً من تناقضاتها الحقيقية او المفتعلة، خصوصاً في ظل غياب الديموقراطية ومصادرة الحريات السياسية وسيادة الاستبداد الرسمي الخائف. كما لا نستطيع تجاهل نزعة استبدادية أخرى من نوع خاص أخذت تجر طريقها الى عقلية وأساليب بعض قوى المعارضة في المنطقة وقيادات الحركات الشعبية نفسها. وإزاء هذه الاحتمالات لا بد للبنانيين أن يبذلوا جهوداً كبيرة لتجنّب مرارات محتملة.

إن فهم طبيعة المرحلة القادمة ومخاطرها يستدعي إعادة النظر ـ لبنانياً ـ بمفاهيم المواجهة وأساليبها، استناداً الى دروس الصراع العربي الإسرائيلي والحرب اللبنانية ومعطيات الوضع الإقليمي والدولي الجديد، كما الى إمكانات لبنان في هذه المرحلة وحاجاته الفعلية. هذا الأمر لا تحتمه رغبة اللبنانيين أو فريق منهم في المواجهة، وإنما تحتمه المخاطر والتحديات الصعبة التي تنتظرهم دون استثناء. ويخطئ من يعتقد بخلاص لبناني بمعزل عن مناعة عربية عامة، فيدير ظهره لمداه الحيوي العربي مولياً وجهه شطراً آخر، كما يخطئ من يدير ظهره للمصلحة اللبنانية مستأنساً ومكتفياً بانتمائه الأوسع، غير مدرك مخاطر تضييع الذات. إن مساهمة لبنان في الدفاع عن القضايا العربية المشتركة تقتضي منه قبل أي شيء إنقاذ نفسه وحماية خصائصه المميزة لوجوده الوطني.

استنادا الى ما تقدّم، نرى أن المواجهة لبنانياً ـ في المدى المنظور ـ تقتضي العمل على حماية الوحدة الوطنية بكل مستلزماتها وتأمين المناعة على جميع المستويات، انطلاقاً من أن جميع اللبنانيين دون استثناء هم موضوعياً في موقع المتضرر من غياب الاستعدادات العامة لمواجهة تحديات واستحقاقات المرحلة القادمة التي لن ترحم وضعاً لبنانياً مفككاً واستعدادات ضعيفة.

إن هذا الأمر يتطلب حواراً لبنانياً جاداً ومسؤولاً حول المهمّات الملحة التالية:

1 ـ إتمام المصالحة الوطنية الفعلية على أساس عدم استبعاد أي فريق لبناني منها، باعتبار أن ما تمّ في هذا الصدد جاء ناقصاً دون مبررات كافية ويحمل ثغرات خطيرة.

2 ـ حماية الوحدة الوطنية اللبنانية على أساس فكرة "العودة الى لبنان" والتمسّك بصيغته.

3 ـ قيام السلطتين التنفيذية والتشريعية المعبّرتين عن المصالحة والوحدة الوطنية والتوازن اللبناني.

4 ـ حماية مؤسسات الدولة واستكمال إعادة بنائها وتأهيلها على أسس الفعالية والتوازن والعدالة. كما تبرز هنا ضرورة استلام الجيش وقوى الأمن الداخلي لكامل المهمات الأمنية والدفاعية على الأراضي اللبنانية.

5 ـ تأمين عودة سريعة لجميع المهجرين في جميع المناطق، وإعطاء هذه المهمة الأولوية اللازمة، لارتباطها بالتكوين الوطني اللبناني.

6 ـ صيانة الديموقراطية والحريات العامة وإرساء الضمانات الوطنية لهذه الغاية.

7 ـ إرساء العلاقات السورية اللبنانية على أسس ثابتة وواضحة، تقوم على قاعدة المصالح المشتركة والسيادة التامة.

8 ـ التنسيق الكامل بين لبنان وسوريا في معركة المفاوضات الجارية، والتمسّك بتنفيذ القرار 425 وسيادة لبنان على كامل أراضيه المعترف بها دولياً.

9 ـ إعادة تأهيل الاقتصاد اللبناني بما يوفر القدرة على الصمود في وجه احتمالات تهميش دوره، والعمل على تدعيم إمكاناته التنافسية في بعض المجالات، وسنّ التشريعات اللازمة لحمايته من المخاطر الآتية تحت عناوين التطبيع. إن السلطة التشريعية أمام امتحان ان تشرّع في المرحلة القادمة لاختراق الوضع اللبناني او لتحصينه.

إن التحدي الأهم في المرحلة الآتية سوف يتركز في مجال الوضع الإقتصادي الإجتماعي. وفي هذا الصدد لا بد من حوار وطني شامل على مستوى مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع وقواه لتحديد الخيارات الصحيحة ورسم السياسات الملائمة. ولعل الموضوعات الأساسية في هذا المجال تدور حول المسائل التالية:

1 ـ تحديد أولويات إعادة البناء، ومصادر التمويل وشروطه؟ وكيفية تجنّب وقوع الدولة في مديونية خارجية كبيرة تستنزف الاقتصاد اللبناني، كما حدث في كثير من بلدان المنطقة والعالم الثالث. كما لا بدّ من وجود السياسات الصحيحة لاستعادة ثقة الرأسمال اللبناني الذي ما زال مستنكفاً عن العودة، وتشجيعه على الاستثمار والتوظيفات الداخلية، الأمر الذي يعفي الدولة من الاعتماد الكبير على القروض الخارجية.

2 ـ تحديد الإجراءات والتشريعات اللازمة لحماية القطاعين المصرفي والسياحي والخدماتي، باعتبارهما ركناً أساسياً في قدرة لبنان التنافسية والمصدر الأهم للداخل الوطني. مع عدم إهمال القطاعات الأخرى، خصوصاً القطاع الزراعي المعرّض لمنافسة خطيرة في أكثر من اتجاه.

3 ـ تطوير الدور الحيوي الاعلامي والثقافي للبنان في المنطقة، ولارتباطه بالدخل الوطني، الأمر الذي يفترض صون الديموقراطية والحريات.

4 ـ العمل على تجنّب مرارات دورة اقتصادية تركّز الثروة في يد عدد ضئيل من الأفراد والشركات، فتوسّع دائرة الفقر التي صارت تضم نسبة كبيرة من اللبنانيين، كما تزيد من تراجع وانحسار الطبقة المتوسطة التي تعرّضت لضربة قاصمة بسبب الحرب. إن هذه الطبقة المتوسطة كانت ثروة اجتماعية كبرى في لبنان، ميّزته لفترة طويلة بين سائر بلدان الشرق الأوسط، واضطلعت بدور حيوي في تأمين التوازن الاجتماعي واحتضان قيم السلم والاعتدال والديموقراطية والتقدم. وهذا الأمر يفرض على الدولة ألا تنسحب من مرافق الخدمات العامة وتلزيمها للشركات الخاصة، تجنباً لمخاطر محقّقة على الوضع الإجتماعي.

5 ـ أهمية وضرورة التنمية المتوازنة بين المناطق اللبنانية، الأمر الذي يساعد على إزالة الآثار الاجتماعية للحرب، وعدد من الأسباب العميقة للنزاع، كما يساعد على إعادة الاندماج الاجتماعي اللبناني. ومن هذا المجال ينبغي إيلاء أهمية خاصة لتنمية المناطق الحدودية وقرى الشريط المحتل بعد تحريرها، تحصيناً لوضعها الاجتماعي في المرحلة القادمة أمام خطر أن تكون معبراً إسرائيلياً باتجاه الداخل اللبناني، بعد أن استخدمت متراساً من قبل الاحتلال.

6 ـ الإسراع في توجّه لبنان نحو المنطقة العربية اقتصادياً، وعدم توفير أي جهد في سبيل تطوير العلاقات الاقتصادية العربية على أسس ومفاهيم جديدة قادرة على حماية المنطقة العربية في المرحلة القادمة. ويجب ألا يتردد لبنان في القيام بدور ريادي في هذا المجال على غرار دوره في تأسيس الجامعة العربية وتفعيلها. ولا شك أن تقصير البلدان العربية في هذا المجال يسقطها ضعيفة متفرقة في السوق الشرق أوسطية.

وفي المسائل الكبرى التي تتصل بالوضع السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، لا بد ن إعادة التأكيد على أن الدولة لا يجوز لها التصرّف بمعزل عن المجتمع وقواه الأساسية. لذلك نؤكد على ضرورة توجه الدولة نحو مؤسسات المجتمع المدني وقواه الفاعلة وقيادات الرأي فيه في سبيل إدارة حوار وطني شامل حول القضايا الأساسية ومتطلبات المرحلة. إن المجتمع اللبناني أثبت في غير مناسبة قدرته على المبادرة، وعلى الدولة أن تغادر مواقع السلبية تجاه المجتمع.

إن مسألة النهوض الاقتصادي والاجتماعي وإعادة البناء غير منفصلة عن المسار السياسي. وقد اثبتت تجارب الحكومات المتعاقبة بعد إتفاق الطائف، وخصوصاً تجربة الحكومة الحالية، أن عملية إعادة البناء تبقى مرشحة للإنتكاس والإنكفاء مع وجود السياسة في مكان آخر، ومع غياب المشاركة الواسعة التي تضمن هذه العملية وتفتح آفاقها.

سابعاً: في معنى الحوار والمؤتمر الدائم للحوار اللبناني

1 ـ ينطلق الحوار من مبدأ الاعتراف بالآخر شريكاً مختلفاً، مع احترام هذا الاختلاف وفهم أسبابه، واعتباره حافزاً الى التكامل لا الى الافتراق. وعليه فإن الحوار لا يدعو الآخر الى مغادرة مواقعه الطبيعية ولا يسعى الى استيعابه، وانما يعمل على اكتشاف المساحة المشتركة وتطويرها، ثم الانطلاق منها، معاً، في النظر مجدداً الى الأمور، مما يسمح بتحصيل خلاصات جديدة تنبني عليها بالضرورة مواقف اكثر ايجابية.

2 ـ والحوار بهذا المعنى يتجاوز منهجية التقريب ليدخل في مستوى التضامن مع الآخر الشريك، من خلال اعتبار المشتركات شأناً أساسياً لكل طرف، لا همّاً فائضاً عن اهتماماته الأساسية.

3 ـ والحوار بمعناه العميق يتضمن حواراً مع الذات وجرأة على وضعها في موضع النقد والمساءلة مما يسمح بتصويب المفاهيم الخاصة عن الذات وعن الآخر. إنه أقصر طريق للقاء مع الآخر.

4 ـ ان مجمل هذه المفاهيم حول الحوار اللبناني تفترض فيه ان يكون دائماً ومستمراً، لانه يشكل منهج علاقات وتعاط وليس حدثاً وينتهي. كما تعني حكماً ان التفاعل قادر على إنتاج أشكاله وأطره المناسبة وتطويرها على الدوام.

5 ـ ان هذا المعنى الاخير يتطلب ان يكون للحوار مؤسسات دائمة على غير صعيد، تؤمن له تراكماً وترصيداً ضرورين لفعاليته:

ـ مؤسسات للرأي والتعبير الديموقراطي المسؤول (منابر، نشرات، منتديات... الخ).

ـ مؤسسات للبحث والدراسة  (مراكز بحث وتوثيق، دراسات معمقة ومتخصصه... الخ).

ـ مؤسسات للعمل والأنشطة الإجتماعية (صيغ العمل والتضامن في المجتمع المدني).

ـ ولعلّ الحاجة كبيرة الى قيام منبر ثقافي وطني (على مستوى أهل الفكر والرأي والإختصاص والتوجيه المعنوي) تناقش من عليه كل المسائل المتعلقة بشؤون الدولة والمجتمع في لبنان، ويسهم في ترشيد السياسة والإدارة والحكم.

6 ـ إن الحوار يسعى الى الإجابة عن أسئلة الإجتماع اللبناني في واقعه ومرتجاه وصيغة عيشه وما يتصل بذلك على مختلف المستويات. ونحن بهذا الصدد، نطرح منطلقات ومبادئ حوارية ونقترح بعض إجابات لا تدّعي النهائية النظرية او الوثيقة البرنامجية، وإنما تعمل على إطلاق فعالية تكاملية ودينامية توحيد في مجتمع مدني آخذ في استعادة وعيه بحيوية وإندفاع يعدان بخير كثير، إن أحسنّا إحترام هذا الوعي.

7 ـ إن "المؤتمر الدائم" ليس حزباً أو تجمعاً سياسياً، وإنما هو إطار مشترك، الغاية منه بلورة مفاهيم في المجالات الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية، يجري فحصها واختبارها في الواقع، بمعايير يأتي في طليعتها معيار حماية المجتمع وصالحه العام.

إن المرحلة التي يمرّ بها لبنان اليوم لا تسمح بإنشاء أحزاب جديدة، فهي مرحلة إنتقالية بين قديم أصبح في نهاياته وجديد نتلمّس معالمه.

والعمل الحزبي لا يزال مشدوداً الى الماضي ومحكوما باعتبارات ضيقة تطغى عليها الرغبة في الحفاظ على مواقعه السابقة، فهو بالتالي لا ينظر الى الجديد المقبل الا من زاوية استمرار الماضي. ولعل حاجة المجتمع اللبناني الماسة اليوم هي الى استعادة الحيوية السياسية من منطلق  الانفتاح الجامع لا الانغلاق المفرّق.

وبخلاف المنطق الحزبي الذي يخرج الانسان من بيئته الضيقة ليضعه في بيئة ضيقة جديدة هي الحزب، فان "المؤتمر" يسعى الى محاورة الانسان من موقعه في بيئته، أكانت مناطقية طائفية عائلية او حتى حزبية، عبر حوار يجري اختبار ومراكمة نتائجه باستمرار، بهدف الوصول الى مشروع مشترك يتخطى الاطار الضيق، فيصبح من مهمات هذا الانسان، غير المنسلخ عن بيئته تطويرها ودفعها للانخراط في المشروع العام المشترك.

إن المقياس لا يتحدد بانتماء الانسان الى عصبية ما، وانما بقدرته على استخلاص دروس التجربة التي عاشها، وإعادة صياغتها بما يجيب عن تحديات الواقع ، وبما يؤمن جهوزية تستند الى المعرفة والتضامن.

8 – إن إدارة  الحوار وتامين التواصل والتكامل والفاعلية تتطلب تنظيما للعلاقات يلبي الحاجات الفعلية للحوار ولا يفيض عنها. ونرى ان هذا المستوى المطلوب هو نوع من "الناظم" بين جهود جماعية واخرى فردية في ميادين التعاطي بالشأن العام، من خلال صيغ أنتجتها أو تنتجها طبيعة العلاقات والظروف الخاصة بكل تجمع ومنطقة. كما ان تطوير صيغة العلاقات والارتقاء بها ينبغي ان يواكبا تطور الحاجات ولا يكون هدفا قائما بذاته.

9 – ان مؤتمرنا يسعى الى الاضطلاع بدور فاعل في تأمين التفاعل الايجابي البناء وتيسيره بين مختلف التشكيلات الوطنية السياسية والثقافية والاجتماعية القائمة (أحزاب، جمعيات، نقابات، روابط... الخ) والتي تؤمن بمعنى التجربة الإنسانية اللبنانية وصيغتها وتعمل على حمايتها وتطويرها.

10 – إن جميع الآراء والمواقف والممارسات التي تلتقي مع معنى مؤتمرنا نعتبرها – على نحو ما – تنتمي اليه، او هو ينتمي إليها، ولا عقدة لدينا في هذا الشأن.