النداء الاول للمطارنة الموارنة

وثائق روحية
20 أيلول 2000

 

اما وقد بلغ الوضع في لبنان هذا الحد من التأزم، فاصبح من الواجب الجهر بالحقيقة، دون مواربة او تحفظ، على ما هي راسخة في النفوس. ونرى الناس يتسارّون فماً الى اذن، ويخشون البوح بها، خوف الاعتقال وما يجره عليهم من وبال. معلوم ان الحقيقة وحدها تنقذ، وذلك قبل فوات الاوان. ولهذا رأينا ان نتوجه اليوم الى كل من يهمه الامر في لبنان وخارجه بهذا النداء، لعله يسارع الى الاسهام في عملية الانقاذ.

 

1- الانتخابات النيابية

 

نبدأ بالحديث عن حقيقة الانتخابات النيابية الاخيرة التي كان المسؤولون عن وضع قانونها اول من اعترف بفساد هذا القانون، وقد اوجد دوائر انتخابية كبرى فيها اكثرية من فئة معينة واقلية من فئة اخرى، فأغرقت اصوات تلك اصوات هذه في اكثر الدوائر، ففاز نواب لا يمثلون من كان يفترض ان يمثلوهم من المواطنين، ونجح بعضهم في الدوائر الكبرى بما فوق المئتي الف صوت، ونجح الآخرون في الدوائر الصغرى بعشرين الف صوت، حتى لكأن هناك نوابا اكثر قيمة واعلى قدرا من سواهم، اذا أخذ بالاعتبار عدد الاصوات المطلوبة للنجاح. فضلا عن الاموال الطائلة التي بُذلت لشراء الضمائر، واثارة النعرات الطائفية، وحجب وسائل الاعلام عن بعض المرشحين، وتشريع ابوابها بوجه سواهم ليل نهار. وما القول عن الضغوط التي مورست لدى تأليف اللوائح فأجبر بعض رؤسائها على اخذ هذا او ذاك ممن لا تجمعه به او باعضاء لائحته اية صلة او اتجاه سياسي، او نزعة وطنية، فيما مُنع غيره من الترشيح ولو منفردا؟ وما القول خاصة عن استدعاء الاجهزة اللبنانية، ولاسيما السورية، المخاتير ورؤساء البلديات في بعض المناطق، والطلب اليهم، تارة بالوعود وتارة بالتهديد، اجبار الناخبين على الاقتراع لمصلحة هذا او تلك من اللوائح؟ وعندما اتى يوم الاقتراع كانت النتائج قد اصبحت معروفة. هذا ما اخذ يرويه رواة صادقون من مرشحين، بينهم من نجحوا، وبينهم من سقطوا، بعد ان انحلت عقدة لسانهم.

 

2- الوضع الاقتصادي

 

لم يعرف لبنان، حتى إبان المعارك، وضعا اقتصاديا مزريا كالذي يعرفه اليوم. وقد دلت احصاءات جدية على ان نصف الشعب اللبناني اصبح يعيش تحت عتبة الفقر. وهناك مصانع تقفل ابوابها وتسرح عمالها، ومدارس خاصة يتناقص عدد طلابها لعجز اوليائهم عن تأمين اقساطهم، فتضطر الى الغاء تعاقدها مع بعض الاساتذة فيها والى صرفهم. وهناك خريجو جامعات يحملون شهادات عليا يلجأون الى السفر الى الخارج بحثا عن عمل لا يجدونه في وطنهم لبنان، ومنهم من يُكتب عليهم ألا يعودوا اليه لاحقا.

 

اما الانتاج اللبناني، سواء اكان زراعيا، ام صناعيا، فلا يجد اسواقا للتصدير، ولا حماية من الدولة امام الانتاج الخارجي، وبخاصة الانتاج السوري الذي يزاحمه على كل صعيد، وفي كل الفصول، لما بين النظامين من فرق كبير من حيث الدعم الرسمي الذي يساعد على خفض الاسعار وتسهيل انتقال البضائع في اتجاه واحد.

 

وهناك اليد العاملة غير اللبنانية التي تزاحم اليد العاملة اللبنانية، وبخاصة السورية التي تحظى بالرعاية في لبنان، وترضى بأجر متدن، نظرا لفرق قيمة العملة بين البلدين، ولارتضائها بما يتيسر من سبل العيش، وهي تقطع سبيل العمل على اليد العاملة اللبنانية التي ترغب في العمل، انما بشروط مقبولة. وهذا ينطبق على صغار الباعة على العربات النقالة، وعلى وسائل النقل والشاحنات السورية التي تعمل بحرية مطلقة في لبنان، فيما اللبنانية منها لا يمكنها ان تعمل في سوريا.

 

3- الوضع السياسي

 

هناك قاعدة معروفة في علم السياسة والاقتصاد، وهي انه ما من اقتصاد سليم دون سياسة سليمة. واذا كان الاقتصاد اللبناني قد تدهور الى هذا الحد، فلانه محكوم بسياسة ادت الى هذا الوضع المؤلم. ان لبنان يعاني منذ ربع قرن من سياسة غير سليمة مفروضة عليه، وقد حاول عبثا التفلت من قيودها، فما زادته محاولاته الا عجزا وضعفا وبؤسا.

 

لا نريد ان نعود الى الحروب التي دارت رحاها على ارض لبنان، والى تبيان اسبابها ومسبباتها، وقد بدأ علماء التاريخ يبحثون عنها ويفندونها وينشرون الكتب بشأنها. وعلينا ان نتحلى بأقل قدر من الصراحة والتواضع لنعترف باننا جميعا اخطأنا الى بلدنا، عن انانية وجهل، وقصر نظر، ونال كل منا نصيبه من قهر واذلال وامتهان وخسارة، وتدمير. وقد آن الاوان لفحص ضمير جدي، واتخاذ العبر مما جرى، والسعي الى حلول تنقذ الوطن من التفكيك الذي يبدو انه يسرع الخطى اليه. وعلى جميع اللبنانيين ان يعملوا متضامنين للحيلولة دون وقوع ذلك.

 

انما هناك امور اصبحت لا تطاق، وهي التي تقود البلد الى الضياع. وفي مقدمها فقدان لبنان سيادته على ارضه، في ظل هيمنة تشمل جميع المؤسسات، والادارات، والدوائر، والمرافق. ولهذا اختلت الادارة، وضاعت المسؤولية، وارتبك القضاء، وبات الناس يعيشون في جو من الخوف، والذل، والنفاق، يعلنون فيه الولاء، ويضمرون البغضاء. ومن تجرأ على الجهر بدخائله كانت عيون الاستخبارات له بالمرصاد، وكثيرون هم اللبنانيون القابعون منذ سنوات طويلة في السجون الاسرائيلية والسورية، وقد أُعطوا ارقاما بدلا من اسمائهم، واذا ذهب احد للسؤال عنهم كان الجواب: ان صاحب هذا الاسم غير موجود.

 

4- أسئلة لا بد منها

 

لقد تحمل اللبنانيون، طوال ربع قرن الكثير، من اذلال وامتهان لم يتعودوه. وناموا على الضيم اياما وليالي، وصبروا على ما حل بهم من خراب ودمار، وارتضوا، على مضض، حرمانهم حقهم في تسيير امورهم، واعتبارهم قاصرين في حاجة دائمة الى وصاية. وهم يرون انه حان وقت المكاشفة في جو من الصدق، والصراحة، والاخوة الحقيقية، والاحترام المتبادل، وطرح بعض اسئلة لا بد من طرحها ابقاء على روح الاخوة التي يجب ان تسود العلاقات التاريخية بين لبنان وسوريا.

 

لقد خرجت اسرائيل من جنوب لبنان، وتركت وراءها مشاكل للبنانيين لا يزالون يعانونها، وقد خفف بعض الشيء من وطأتها ما اظهره من حكمة من حرروا الجنوب، بما بذلوه من دماء زكية في سبيل التحرير، بدافع من حمية وطنية صحيحة. وقد مهدوا السبيل للدولة لتبسط سلطتها على جميع اراضيها عملا بالقرار 425 الذي تحرر الجنوب دون تطبيقه عمليا. اما حان الوقت لتبسط هذه الدولة سلطتها فعليا ليشعر الناس بانهم اصبحوا في حمايتها وليتشجعوا ويعودوا الى بيوتهم وعيالهم وارزاقهم؟

 

وبعد ان خرجت اسرائيل، أفلم يحن الوقت للجيش السوري ليعيد النظر في انتشاره تمهيدا لانسحابه نهائيا، عملا باتفاق الطائف؟ وهل من الضرورة ان يبقى مرابطا في جوار القصر الجمهوري، رمز الكرامة الوطنية، ووزارة الدفاع، وفي ما سوى ذلك من اماكن حساسة يشعر اللبنانيون لوجوده فيها بحرج كبير، لكي لا نقول بانتقاص من سيادتهم وكرامتهم الوطنية ؟

 

لقد كان هناك تصريحات تقول بانه اذا انسحب الجيش السوري من لبنان قامت فتنة فيه، او ان وجوده اصبح جزءا لا يتجزأ من السلم اللبناني، او انه ينسحب اذا طلبت منه الحكومة اللبنانية الانسحاب. ومعلوم انها حجج واهية لا تثبت امام المنطق السليم: لن تكون فتنة في لبنان ان لم يعمد احد الى اضرام نارها، واللبنانيون ما اقتتلوا يوما الا لانه كان هناك من يبذر بذور الفتنة في ما بينهم.

 

وحرصا منا على توثيق احسن علاقات الاخوة بين لبنان وسوريا، وفي مطلع عهد فيها نريده لها زاهرا، نرى انه قد حان الاوان لاعادة النظر في طريقة التعاطي بين البلدين بحيث يقوى احدهما بالآخر، فيتكاملان تكاملا صحيحا، مفيدا لكليهما، وان يعاد انتشار الجيش السوري في لبنان تمهيدا لانسحابه نهائيا عملا بالقرار 520 وباتفاق الطائف، وابقاء على ما بينهما من روابط تاريخية وجغرافية، وبين شعبيهما من وشائج قربى ونسب وصداقة ومصالح مشتركة. وفي اعتقادنا ان هذا هو السبيل الوحيد للحيلولة دون تفكك لبنان وزواله. وهو اذا كان متعافيا كان عونا لسوريا، واما اذا ظل عليلا كان عالة عليها. ونحن نريد له ما نريده لسوريا من عزة وكرامة وازدهار وسلام.

حقق الله الآمال، وهدانا جميعا سواء السبيل.

بكركي 20/9/2000