النداء الثاني للمطارنة الموارنة

وثائق روحية
5 أيلول 2001

يوم الاربعاء في الخامس من ايلول 2001، اجتمع اصحاب السيادة المطارنة في المقر البطريركي في الديمان برئاسة صاحب الغبطة والنيافة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، وتباحثوا في امور كنسية وطقسية ووطنية، وفي ختام الاجتماع اطلقوا النداء الثاني التالي:

 

المصارحة خير وابقى

بعد اسبوعين يكون قد انقضى عام على ندائنا الاول. وقد امّلنا النفس بان يبادر المعنيون الى اتخاذ التدابير الكفيلة تصحيح العلاقة التي تشدنا الى الشقيقة سوريا، وذلك لخير البلدين الاخوين. ولكننا انتظرنا سنة رأينا فيها بعض محاولات خجولة تظهر على الساحة، وما لبثت ان تبخرت لتترك اللبنانيين في حيرة من امرهم، لما يلف علاقتهم بشقيقتهم من ابهام، فهم لا يعرفون ما اذا كانوا حقا، كما تؤكد لهم، مستقلين، يتدبرون امورهم دونما تدخل منها بشؤونهم الداخلية، ام انهم قد اصبحوا تابعين لها، بعد ان اصبح بلدهم يغيب شيئا فشيئا عن الساحة الدولية، وعاجزا عن اتخاذ اي قرار، ايا يكن، دون العودة اليها. وفي اعتقادنا انه قد حان الاوان للخروج من هذا الابهام. فالصدق في التعاطي، والمصارحة خاصة في الامور المصيرية، خير وابقى.

ومعلوم ان لبنان قد نعم عبر التاريخ بحكم ذاتي. وهو على الاقل في العهد العثماني لم يخضع للولاة رأسا، بل كان يحكمه الامراء اللبنانيون من معنيين وشهابيين الذين كانوا يدفعون للباب العالي ما يفرضه عليهم من جزية، وقد اطلق هذا الاخير يدهم في حكم البلد وادارة شؤونه. وجاء عهد المتصرفية الذي نال فيه لبنان استقلالا اداريا بكفالة سبع دول اوروبية، وكان الانتداب الفرنسي، واعادة الاقضية الاربعة الى لبنان، اي الى حدوده الطبيعية التي كانت له قبل تحجيمه في عهد المتصرفية، وكان الاستقلال الذي اعترفت به منظمة الامم المتحدة وجامعة الدول العربية.

صحيح ان بعض اللبنانيين ابدوا في بدء عهد الانتداب بعض التحفظ لدى اعلان استقلال لبنان في مقابل مشروع الامير فيصل الذي اعلن مملكة سوريا العربية، لكنه مشروع لم يحالفه النجاح. ولا ندري ما اذا كان اليوم من بين اللبنانيين من لا يريد لبنان بحدوده الطبيعية، سيدا حرا مستقلا، وخاصة ان الدستور اقر لبنان وطنا نهائيا لجميع ابنائه.

 

ماذا كان بعد النداء الاول؟

عِيبَ على النداء انه طالب باعادة انتشار الجيش السوري، تطبيقا لاتفاق الطائف، وقيل ان الانتشار كان قد بدأ، لكنه توقف لكيلا يقال انه يتم تحت الضغط. وقيل ايضا، جوابا على النداء،  ان وجود الجيش السوري في لبنان ضروري وشرعي ومؤقت. وكانت مبادرة دولة الرئيس بري التي ما ان ظهرت الى العلن حتى خنقت في المهد. وكانت زيارتا معالي الاستاذ فؤاد بطرس الى دمشق، على امل ان يكون حوار يؤدي الى تصحيح العلاقة بين لبنان وسوريا، وما طال الامر حتى قيل ان على الدولة اللبنانية ان تتولى هذا الامر، لان مثل هذا الحوار لا يصح الا اذا جرى بين دولتين.

وفي المقابل، علت بعض اصوات في المجلس النيابي ووسائل الاعلام تطالب بتصحيح العلاقة السورية اللبنانية واعادة انتشار الجيش السوري. وكان تجمع مسيحي وطني تمثل شيئا فشيئا في لقاء قرنة شهوان، وكان المنبر الديموقراطي. وكان ان انحلت عقدة الالسنة، فاصبح الناس يعربون عن اقتناعاتهم، ولو بحذر. ولقي النداء الذي اعرب عنه الشعب لدى عودة صاحب الغبطة والنيافة من الولايات المتحدة وكندا، ولدى قيامه بزيارته الرعائية الى الدامور، فالشوف، فجزين. وهي زيارة، وضعت حجر الاساس لمصالحة وطنية شاملة بدأت بين المسيحيين والدروز في تلك المنطقة، لتشمل لاحقا جميع الفئات اللبنانية برعاية الدولة اللبنانية. غير انه عقبتها فورا، ويا للاسف الشديد، اتهامات، فاعتقالات، فمحاكمات.

 

انعكاس هذا الوضع على الدولة

لا حاجة الى التدليل على ما آلت اليه امور الدولة في هذا الجو الملبد بالغيوم الثقيلة. وان ما شاهدناه بالامس القريب لأسطع برهان على التردي الذي وصلت اليه المؤسسات: مجلس النواب غيّر موقفه بعصا سحرية من النقيض الى النقيض، في مدى عشرة ايام، مجلس الوزراء بدا كأنه لا يعرف ما يجري حوله، وهو المسؤول عن كل اوضاع البلد، بموجب الدستور. الحالة الاقتصادية تنذر بأوخم العواقب. البطالة منتشرة انتشارا مخيفا لم يسبق له مثيل. الادمغة الشابة تهاجر، وليس من يدري ما اذا كان سيقيض لاصحابها ان يعودوا الى لبنان.

هذا والدولة تبدو كأنها مكبلة. ومن النواب من يتجاهلون الشعب والشعب يتجاهلهم، وهم يدينون بالولاء لمن اقعدهم في مقاعدهم. وبعض الوزراء مفروضون على رئيسهم، المجبر على التعاون معهم، على كره منه. والقرار خارج لبنان، وليس لاصحابه اللبنانيين. والمقررون يؤيدون من يشاؤون من اهل الحكم، فينصرون هذا على ذاك، ولا حرج. وبدلا من جمع الصفوف، يمعنون في تقسيمها.

فهل يجوز ان تستمر هذه الحال التي بدأت منذ خمس وعشرين سنة؟ واصبح لبنان معها يضيع شيئا فشيئا هويته وخصائصه ومؤسساته الدستورية، وحتى كيانه، خاصة بعد ان جنّس من الطارئين عليه أعدادا كبيرة؟ هذا فيما الكثير من اللبنانيين يبذلون اقصى جهدهم للحصول على جنسية غريبة ايا تكن، ويذهب سواهم بزوجاتهم الى الخارج ليضعن مواليدهن حيث يكتسبون جنسية يعتقدون انها تؤمن لهم مستقبلا هادئا. وكل ذلك لفقدانهم ثقتهم بوطنهم.

 

من الرابح؟ من الخاسر؟

ما من احد يجهل ما يعانيه لبنان من مشاكل، دون غيره من بلدان محيطه، ما عدا فلسطين التي نأسف شديد الاسف لتعرض شعبها للمذابح اليومية. وهناك مسألة توطين الفلسطينيين المقيمين في لبنان، والخلاف على مزارع شبعا والغجر، ومسألة ارسال الجيش الى الجنوب، بناء على الحاح الامم المتحدة، والولايات المتحدة وبعض الدول الاوروبية، ومسألة الجبهة الوحيدة المشتعلة في جنوب لبنان، فيما كل الجبهات مع اسرائيل هادئة، ومسألة الجنوبيين من كل الانتماءات المذهبية الذين التجأوا الى اسرائيل، والذين من بينهم من يقبعون في السجون اللبنانية، فيما عيالهم من نساء واولاد باقون دون معيل، ومسألة الديون الباهظة التي لا طاقة لبلد صغير كلبنان بحملها، وهو مكره على اعتماد اقتصاد حرب وافتقار، فيما ما حوله من الدول تعتمد اقتصاد سلم وازدهار. ومسألة بقاء الاسلحة في بعض الايدي، خلافا لما نص عليه اتفاق الطائف. اخيرا مسألة تطبيق الطائف تطبيقا انتقائيا افرغه من مضمونه بحيث انه راح من يتساءل قائلا: هل هذا الاتفاق لا يزال قائما ام انه سقط نهائيا؟ وهل هذا يعني ان لبنان محكوم عليه ان يبقى تحت الوصاية الدائمة، بحجة ان ابناءه سيعودون الى الاقتتال، فيما لو ارتفعت الوصاية عنهم؟

خلافا للاعتقاد المزعوم، باستطاعة لبنان ان يتغلب على جميع مشاكله، فيما لو ترك له امر حلها. وشعبه مسالم، وهو يرغب في مصالحة وطنية شاملة، على ان ترتفع يد الوصاية عنه، وعلى ان يسمح له بممارسة نظامه الديموقراطي على وجهه الصحيح، وباختيار ممثليه في المجلس النيابي بحرية تامة دون مداخلات ووعود ووعيد. وبالتالي اختيار حكامه ومحاسبتهم لدى الاقتضاء. وحتى اليوم لم يفكر احد بوضع قانون انتخاب عادل وثابت يأتي بالنتيجة المطلوبة. ولكن لبنان اذا استمر في هذا الوضع المخزي، فستستمر الهجرة تبتلع ابناءه، وسيأتي يوم لا نتمناه، يقال فيه كان لبنان الذي عرفناه سيدا مستقلا. والذين يدّعون المحافظة عليه بابقاء الوصاية عليه، يكونون هم من تسببوا بزواله. واذا زال لبنان فالذين يطمعون بابتلاعه لن يكونوا سعداء، لا بل سيكونون هم الخاسرين، ولن يخسروا ما يجنونه من فوائد مادية ومعنوية فقط، بل ستنتقل العدوى اليهم، وهذا ما لا نتمناه لهم.

 

الحل في الأخوّة الحق

هناك من يقول من اللبنانيين، لاغراض لا تخفى على احد، ان الجيش السوري لن يذهب من لبنان ما دام الصراع الفلسطيني الاسرائيلي قائما. ومن يدري متى سينتهي هذا الصراع، وقد مر عليه نصف قرن، وليس ما يدل على انه سينتهي في القريب العاجل. ولكن الواقع، الذي لا جدل فيه،  ان لبنان ازدهر واستقامت احواله على مدى ربع قرن، على الرغم من كل الصعوبات، قبل ان يدخله الجيش السوري.

وبعد هل من يستطيع اليوم ان يقول ما اذا كان الجيش السوري في لبنان قد اعاد انتشاره؟ والى اي مدى؟ وما هو العديد المرابط منه حاليا في لبنان؟ والى اي زمن؟ وهناك من يطيب له التأكيد ان الحاجة ستبقى ماسّة اليه حتى ولو انتهى هذا الصراع، وذلك خلافا لما نص عليه اتفاق الطائف، وكل المواثيق والاعراف. ان هذا القول يقضي نهائيا على استقلال لبنان وسيادته، لان بقاء الجيش السوري فيه وما يتفرع عنه من اجهزة تهيمن على الحياة السياسية يمنع ممارسة الحياة الديموقراطية فيه، ويقضي بالتالي على الحريات. ولبنان والحريات صنوان. ولكن ان يبقى الفاسدون والمفسدون من لبنانيين وسوريين، (والكلام ليس لنا)، يستغلون الوجود العسكري السوري في لبنان لتقاسم المغانم على حساب افقار الشعب اللبناني، وتقويض نظام لبنان فهذا يؤذي سوريا ولبنان معا. وافضل حل لهذه الحالة الشاذة، تمكين لبنان من القيام بمسؤولياته بذاته، وتدبير شؤون بيته بنفسه، على ان يكون هناك تنسيق بينه وبين لبنان في الامور المشتركة، وهذه قناعة منا ثابتة، شأن اخوين يسكن كل منهما بيته ويتعاطى اموره الذاتية، دون ان يتدخل احدهما في امور الآخر، وفقا لاصول العلاقات بين الدول.

ونحن نؤمن ان مستقبل لبنان واستقلاله رهن بارادة ابنائه وايمانهم وتضامنهم ووقوفهم الى جنب الحق بجرأة، وهذا ما نعهده فيهم. لذلك، وعلى الرغم من كل الصعوبات التي عرضناها والازمات التي يعيشها الشعب اللبناني، لا يمكننا الا ان ندعو هذا الشعب، بكل فئاته، لكي يعزز ثقته بوطنه وبنفسه، وان يوحد صفوفه ويتضامن تضامنا اخويا لاعادة لبنان الى ما كان يحتله من مكانة في مجموعة الدول الحرة السيدة المستقلة.

هذه، يشهد الله، قولة حق وصدق، لتسلم الاخوّة وتحلو الحياة.