دعوة للاتفاق على معنى لبنان

وثائق لبنانية
15 ايار 1999

وثيقة للحوار والتضامن في سبيل لقاء لبناني جديد
(15 أيار 1999)

تحاول هذه الوثيقة المساهمة في تكوين أوسع تضامن لبناني حول "معنى لبنان ودوره". وتعتبر أن المدخل الاساس لهذا التضامن المنشود هو في رؤية تستطيع التوفيق بين شرطي العقد اللبناني: المواطنية والتعددية الطائفية، أي التوفيق بين حق الافراد في التمتع بحقوق المواطنية الكاملة من خلال دولة القانون والمؤسسات وحقوق الانسان، وحق المجموعات في الاطمئنان الى شخصيتها والمشاركة في تقرير القضايا الكبرى المتعلقة بالعيش المشترك.

يأتي إطلاق هذا الحوار في وقت يواجه فيه اللبنانيون مهمات كبرى يتوقف على نجاحهم أو فشلهم في التصدي لها تحديد نوعية مستقبلهم لفترة طويلة، خصوصاً في أجواء التحولات الكبرى التي تعيد ترسيم المصالح في المنطقة والعالم.

وهذه الوثيقة هي حصيلة مناقشات معّمقة، على مدى شهور، بين عدد من أهل الرأي والتأثير في مجالات متنوعة ثقافية ودينية وقانونية وتربوية واجتماعية وسياسية، توافقوا عليها وتعاهدوا على اعتبارها منطلقاً لحوار وطني، وصولاً الى مؤتمر عام يؤسس لتيار لبناني عريض قوامه "كتلة تاريخية لبنانية" قادرة على صون معنى لبنان.

وقد عقد هؤلاء سلسلة لقاءات  قرروا إثرها نشر هذه الوثيقة موقعة بأسمائهم (1) .

كما اعتبروا نشر هذه الوثيقة وتعميمها دعوة خاصة موجهة الى كل لبناني للمساهمة في مناقشتها وإغنائها والانضمام الى موقعيها تمهيداً لتشكيل هيئة تحضيرية تتولى الدعوة الى مؤتمر عام يناقش ويقّر صيغتها النهائية.

المقدمة

1- يقّر اللبنانيون، على اختلاف ميولهم واتجاهاتهم، بوجود أزمة وطنية حادة لا تزال تتفاعل بالرغم من انقضاء تسع سنوات على توقف الحرب واتفاق الطائف، لكنهم في الوقت عينه لا يزالون مختلفين على تشخيص الأزمة وبالتالي على سبل الخروج منها. وفي هذا المجال يتنازع المهتمين اتجاهان أساسيان: 


    اتجاه قانوني - دستوري - مدني يرى أن تركيز الجهد على بناء "دولة القانون والمؤسسات" كفيل بمعالجة آثار الحرب وإخراج البلاد من أزمتها، دونما كثير اعتبار لواقع الطوائف وتطلباتها. هذا الموقف يستهوي عدداً من القوى في الأحزاب غير الطائفية والتشكيلات النقابية والمهنية وفي بعض الاوساط الثقافية والشبابية. تلك القوى تنظر الى "الرابطة الطائفية" على أنها "عصبية متخلفة تشدّ المجتمع اللبناني الى الوراء، فضلاً عن كونها أصل الحروب الدورية". 
    اتجاه طائفي-ميثاقي يعتبر أن التزام "وثيقة الوفاق الوطني" وميثاق العيش المشترك هو المدخل الاساس لقيام الدولة. وعليه فإن تجاهل الواقع الطائفي وتطلباته هو قفزة في المجهول. ولئن بدا للبعض أن التعدد في المجتمع اللبناني حالة خاصة ينبغي تجاوزها، فإن مثل هذا التعدد أصبح اليوم معطى اساسياً في العالم، خصوصاً في المجتمعات الباحثة عن أسس جديدة لوحدتها في ضوء المناقشات الجارية حول مسألة "الهوية".

2- شكل هذا الانقسام عقبة أساسية حالت دون تأسيس الحياة السياسية على قواعد واقعية: 


    فالأحزاب والحركات اللاطائفية التي انطلقت من اعتبار الرابط الطائفي رابطاً رجعياً ينبغي تجاوزه فتشكلت من أفراد انتزعتهم من طوائفهم، اصطدمت بصلابة التكوين الطائفي في المجتمع، ما جعلها قليلة الفعل والتأثير فيه. ومع تطور الأحداث وخصوصاً الحرب، وجدت هذه الأحزاب نفسها داخل اللعبة الطائفية كما ان العامل الطائفي ما لبث أن وجد تعبيراته داخل بنيتها وسلوكها.
    اما الحركات السياسية المؤسسة على الطائفية، فقد سعت الى احتكار الدولة واعتبرت المواطنية أمراً ثانوياً، ثم تصادمت في ما بينها وداخل كل منها.

وفي معظم الأوقات ظلت الحياة اللبنانية تفتقر الى القوى القادرة على التوفيق بين شرطي العقد اللبناني: المواطنية والتعددية الطائفية.

3- إن الخروج من الأزمة يتطلب تجاوز عدد من الثنائيات المتقابلة في التفكير اللبناني، منها:


    هل المجتمع اللبناني مجتمع مكون من أفراد من دون حساب للمجموعات أو من مجموعات من دون حساب للأفراد؟ أو أنه مجتمع مركب يتسع لأنماط متعددة غير متلاغية؟
    هل ينبغي أن تكون الدولة محكومة بالدستور وحده أو بالميثاق وحده؟ أو أنها محكومة بالاثنين معاً: الدستور ينظم علاقاتها بالأفراد والميثاق ينظم علاقاتها بالمجموعات؟
    هل الديموقراطية في لبنان ديموقراطية "عادية-عددية" أو أنها ديموقراطية مركبة تأخذ في الاعتبار الأفراد والمجموعات؟
    هل الدولة في خيار بين أن تكون لاغية للطوائف لا تعنى إلا بالأفراد أو موضوعاً للتقاسم والمحاصصة بين الطوائف ولاغية بالتالي للأفراد؟ أو أنها دولة تعنى بشؤون الأفراد بمعزل عن انتماءاتهم المتنوعة، وتعنى بالحفاظ على حق المجموعات في الوجود الحر في إطار ميثاق العيش المشترك الذي يلزم الدولة والطوائف معاً؟

4- إن اللبنانيين، أفراداً وجماعات، مدعوون الى بناء دولة القانون والمؤسسات. وهذه الدولة ينبغي:


    أن تكون منسجمة مع طبيعة مجتمعها، غير منفصلة عنه ولا مستقوية عليه، تصون حقيقته وترعى صيغة العيش المشترك، وأن تعمل تالياً على رعاية الوحدة الوطنية بعد إزالة تشنجات الحرب وإنجاز المصالحة العامة.
    أن تكون ديموقراطية، تفسح في المجال أمام التحولات الحاصلة في المجتمع كي تنعكس على مستوى السلطة السياسية، وتؤمن تالياً أوسع المشاركة من خلال الأطر المتعددة التي نص عليها الدستور.
    أن تكون قادرة على مواكبة العصر، فاعلة في تنظيمها شؤون المواطنين، مرتكزة على إدارة حديثة قائمة على الكفاءة ومحررة من القيد الطائفي، تتمتع مؤسسات الرقابة في إطارها بحصانة واسعة تمنحها دوراً كاملاً غير منقوص.
    أن تكون عادلة وقوية، والقوة لا تعني القمع، بل القدرة على تأمين التوازن الوطني في أشكاله المتنوعة، من توازن بين الطوائف وبين المناطق، وصولاً الى التوازن بين الفئات الاجتماعية، وأن تكون في ذلك تعبيراً عن  أوسع توافق بين اللبنانيين.
    أن تكون سيدة، حرة، مستقلة، الأمر الذي يجعلها قادرة على استعادة دورها ويمكنها من بناء افضل العلاقات مع الدول العربية وتجديد الحضور اللبناني الفاعل في العالم.

5- الى ذلك، فان الجماعات الطائفية مطالبة ببذل جهد إضافي. فعلاوة على احترامها دولة القانون والمؤسسات، من واجبها تغليب عوامل الوحدة على عوامل التفرقة في داخل كل منها وفي ما بينها. فهناك صراع مستمر داخل الطوائف بين اتجاهات تدعو الى التواصل مع الآخر وتطوير المساحات المشتركة معه، وأخرى تراوح مواقفها بين الغلبة وفرض الهيمنة في مرحلة نهوضها، والانكفاء وفك الشراكة في مرحلة تراجعها. ويبرز هذان الاتجاهان في شكل واضح في الصراعات الجارية داخل كل طائفة: اتجاه يحاول التمايز عن الآخر من خلال التركيز على نقاط الاختلاف لفرض مشروع هيمنة أو طلاق، واتجاه آخر لا يتجاهل نقاط التمايز ولكنه ينطلق منها للبحث عن مجالات مشتركة لاقامة عيش مشترك يهدف الى تأمين الصالح العام.

استناداً الى ما تقدم، يمكن تركيز الجهد على الأهداف الآتية: 

أولاً: إطلاق الحوار حول الإشكالية الأساسية في الحياة الوطنية والتي يمكن تلخيصها بالسوأل الآتي: كيف يمكن التوفيق بين المواطنية والتعددية ؟ وهذا يعني التوفيق بين حق الأفراد في التمتع بالمواطنية الكاملة من خلال دولة القانون والمؤسسات وحق المجموعات في الاطمئنان الى وجودها والمشاركة في تقرير القضايا الكبرى المصيرية.

ثانياً: استعادة ثقة اللبنانيين بالنفس من خلال تجديد المعرفة بمعنى لبنان وإعادة الاعتبار لما تضمنته التجربة اللبنانية من أبعاد إنسانية تقدمية. فتجاهل بعض اللبنانيين لهذا المعنى افقدهم جزءاً من الأهلية في مواجهة مشكلاتهم الأساسية، وذلك نتيجة اهتزاز الصورة الجماعية التي كونوها عن ذاتهم، ما حرمهم المستند النفسي والتاريخي الذي تلجأ إليه الشعوب لتحديد ذاتها بعد المحن وفي المنعطفات التاريخية. 
إن استعادة الثقة بالنفس لا بد منها لمواجهة شعور العجز الذي يتملك اللبنانيين منذ فترة طويلة ويزعزع ثقتهم بمستقبل بلدهم.

ثالثاً: تجديد دور لبنان من خلال العمل على جعل التجربة اللبنانية في صيغتها المتجددة نموذجاً يمكن الإفادة منه في العالم العربي بوصفه نمطاً حضارياً في البحث عن العيش المشترك والترقي في مجتمعات تتميز بالتنوع والتعدد، ومدخلاً لاعادة تعريف العروبة بوصفها رابطة حضارية تقرّب بين العرب لا مشروعاً سياسياً يباعد بينهم، ومساهمة في حوار الحضارات على الصعيد الإنساني العام بدلاً من نظريات "صراع الحضارات" التي نادى بها البعض في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة.

رابعاً: الدعوة الى الحوار والتضامن لإنضاج "كتلة لبنانية تاريخية" بما هي حامل لمشروع وطني قادر على صون العيش المشترك وتجديد دور لبنان. وتتأكد الحاجة الى هذه الكتلة من اعتبارات أساسية، لعل أهمها ثلاثة:


    المهمات الكبرى المطروحة على اللبنانيين في هذه المرحلة، بحيث يترتب على نجاحهم أو فشلهم في التصدي لها تحديد نوعية مستقبلهم لفترة طويلة، مثل: استعادة الوحدة الداخلية ومرتكزات العيش المشترك، إعادة بناء الدولة، تحرير الأراضي المحتلة، الاطمئنان الى استمرار الكيان المستقل والتجربة اللبنانية في أجواء تحولات كبرى تعيد ترسيم المصالح في المنطقة والعالم.
    حاجة البلاد الى الخروج من وضعية المراوحة بين قديم ما زال يتصدر الحياة العامة، وقد بات يشكل عائقاً فعلياً أمام نهوض البلاد، وبين جديد لم يمتلك بعد كل مقومات الحضور والتمكن.
    حال الإنهاك والتشرذم التي استوت عليها تشكيلات الاجتماع اللبناني (طوائف ومذاهب وأحزاباً ونقابات …) بعد الحرب وعلى غير صعيد، ما يجعل المراهنة على فئة بعينها مستحيلة.

إن مواصفات الكتلة اللبنانية المنشودة مرتبطة بطبيعة المهمات المنوطة بها، كما هي مرتبطة بواقع القوى في المجتمع. وهذا يفترض أن تكون الكتلة في واقعنا اللبناني: أكبر من طائفة أو طبقة أو فئة أو حزب، وأوسع من معارضة أو سلطة. وبديهي أن تكون أوسع من لقاء قيادات. وهي أرحب من اتجاه فكري ثقافي معين، وحركتها أبعد من "السياسة" في معناها المباشر. فهي لذلك أكثر من تجمع سياسي.
إن عناصر الكتلة المنشودة موجودة بأصالة وعمق في المجتمع اللبناني، وهي تتمثل بالقوى والقيادات والأفراد - في مختلف دوائر الانتماء ومواقع العمل والنشاط - الذين استخلصوا دروس الحرب والذين يمتلكون النضج والشجاعة الكافيين لصوغ لقاء لبناني جديد.

اشكالية الهوية والديموقراطية في المجتمع اللبناني

كيف يمكن بناء الدولة مع وجود خلاف بين اللبنانيين على طبيعة المجتمع الذي سوف تتولى هذه الدولة إدارة شؤونه؟ 

- فهناك من يأخذ الطوائف وحدها في الاعتبار, فيرى الى اللبنانيين مجرد مجموعات دينية أقلية (طوائف ومذاهب) التقت في إطار دولة أنيط بها تنظيم تعايشها، وبالتالي ينبغي مراعاة مبدأ المشاركة والتوازن في السلطة واعتماد ديمقراطية ذات طبيعة توافقية. واصحاب هذا الرأي لا يخلون من غلاة لا يكترثون لحقوق الافراد (المواطنين) ويرون أن هذه الحقوق تتأمن من خلال الحقوق الكلية للطوائف أو من خلال الممثلين السياسيين للطوائف.

- وهناك من يأخذ الفرد – المواطن وحده في الاعتبار, فيرى إلى اللبنانيين مجرد افراد تربط بينهم علاقة قانونية مبنية على انتمائهم المشترك إلى الوطن اللبناني . وبحسب غلاة هذا الرأي (التطرف العلماني) ليس من حق الانتماء الطائفي أن يعبّر عن نفسه في المجال العام، خصوصا" في مؤسسات الدولة ومن خلال العمل السياسي، بل يجب إقصاء تعبيرات هذا الانتماء إلى المجال الخاص. وعلى هذا الاساس ينبغي إقامة دولة مركزية معنية بالافراد وليس بالجماعات، ومحكومة يديموقراطية العدد كما هي الحال في بعض الدول الغربية.

- وهناك من يرى إلى اللبنانيين جزءا" من نسيج المجتمع العربي، لا يمتلكون أي خصوصيات تسوّغ وجودهم في كيان خاص، بل إن الاستعمار هو الذي سلخهم من مجتمعهم الكبير. وبحسب غلاة هذا الرأي (التطرف القومي) ينبغي اعتبار الدولة في لبنان دولة موقتة في انتظار تحقيق الوحدة المنشودة وإقامة الدولة العربية الواحدة.

- وهناك من يرى إلى المجتمع اللبناني مجتمعا" اسلاميا" تعيش في كنفه أقليات مسيحية. وبحسب غلاة هذا الرأي (التطرف الديني الاسلامي) ينبغي السعي لاقامة دولة إسلامية في لبنان، كجزء من دولة إسلامية كبرى منشودة وذلك في مجرى "الصحوة الاسلامية المعاصرة".

- وهناك من يرى إلى المجتمع اللبناني مجتمعا" مسيحيا" مهدداً من الداخل بالنمو الديموغرافي للمسلمين، ومن الخارج بالمحيط العربي ذي الغالبية الاسلامية. وبحسب غلاة هذا الرأي (التطرف الديني المسيحي) ينبغي العمل دائما" على تأمين ضمانات داخلية بالامتيازات وخارجية بالتحالف مع الغرب المسيحي أو مع أي قوة كبرى تؤمن تلك الضمانات.

لا مشكلة في تعدد الميول والاتجاهات والحساسيات ضمن حدود واقعية مشروعة ومفهومة. وهذا التعدد يمكن أن يشكل دوائر انتماء مختلفة ولكنها غير متصارعة أو متلاغية بالضرورة. فاللبناني الواحد يمكن أن ينتمي في الوقت عينه إلى دوائر عدة: دائرة المواطنية (فرد بذاته ينتمي إلى وطن ودولة)، دائرة الجماعة الدينية أو الطائفية، دائرة العائلة، دائرة المنطقة، دائرة العروبة، دائرة عالمية أو انسانية… ودوائر الانتماء في أي مجتمع كثيرة ومتعددة، ويمكن ان تتخذ اشكالا" واسماء مختلفة من مجتمع إلى آخر ومن حقبة إلى أخرى كالانتماء القبلي والعرقي والاتني والثقافي وغير ذلك، فواقع الحياة في الطبيعة والاجتماع والفكر اكثر غنى" وتعقيدا" مما تتصوّر النظرات التبسيطية والنزعات الاختزالية.

أين المشكلة إذا"؟
إن المشكلة تكمن في التطرف المشار اليه لدى مختلف الاتجاهات اللبنانية. وهي تظهر بحدّة عندما يدفع أي فريق بخياراته إلى حدودها القصوى، محاولا" ترجمتها في مشروع سياسي يلغي الآخرين بدلا" من البحث عن مشروع يتّسع للجميع وينظّم العلاقة في ما بينهم على قواعد الاعتراف المتبادل والشراكة الفعلية والتوازن. ونظرا" لتنوٌع المجتمع اللبناني (مجتمع مركب) وانفتاح مكوِّناته على قوى ومرجعيات خارجية، فإن أي مشروع فئوي لا يجد سبيله إلى التحقُق إلا بتدخٌل خارجي، سواء من تلقاء نفسه أو بالاستدعاء.

إن هوية اللبناني هوية مركبة، شأنه في ذلك – اذا دققنا قليلا" – شأن كل الناس في كل البلدان. وهذا التركيب ينطوي على دوائر متعددة، يحرص كل واحد عليها جميعا"، وإن كان يقدّم دائرة على اخرى من وقت إلى آخر تبعا" لتطوره الشخصي أو لتغير الشروط التي تكتنف حياته. وفي ما يعني علاقة اللبناني بالدولة والمجتمع, هناك دائرتان اساسيتان في انتمائه ينبغي أخذهما معا" في الاعتبار لدى البحث في صيغة تحافظ على قيمتَي الحرية والديمقراطية:


    دائرة فردية مدنية تتحدّد بالمواطنية التي ينبغي أن تطبّق على الجميع بالشروط نفسها.
    ودائرة جماعية تتحدّد بالطائفية التي تريد الاعتراف بالتعدد وبحق هذا التعدد في التعبير عن نفسه.
    إن الدولة الديمقراطية هي التي تتيح لللاختلاف والتعدد التعبير عن نفسهما في المجال العام. وتتلخص اشكالية الديمقراطية في لبنان بالمسألة التالية: كيف يمكن التوفيق بين المواطنية والتعددية؟ بعبارة أخرى : كيف يمكننا أن نعيش معا" متساوين ومختلفين؟

إن حل هذه الاشكالية في الواقع اللبناني يتوقف على التوفيق بين الهويتين: الهوية السياسية المدنية (المواطنية) والهوية المجتمعية الاهلية (الطائفية) . والتوفيق يعني الا تحاول المواطنية قمع الاختلاف ووضع حدود لحضوره في المجال العام، وألا تحاول الطوائف الاستئثار بحياة أعضائها. ففي لبنان تشكو المواطنية من طغيان الطائفية عليها، وهناك سعي لطغيان معاكس.

إن مبدأي المواطنية والتعددية هما اساس العقد الاجتماعي الذي قامت عليه الدولة في لبنان. ولا تستطيع الدولة ان تكون ديموقراطية إلا إذا احترمت هذين المبدأين ونجحت في التوفيق بينهما.

تجربة الميثاق الوطني (1943-1975)

نجح ميثاق 1943 إلى حد بعيد في تجاوز تلك المشكلة بالتسوية والاعتدال وكتلة تاريخية لبنانية مختلطة (اسلامية ومسيحية – سياسية وثقافية – شعبية ونخبوية) شكلت رافعة" للاستقلال ولتثبيت الكيان في حدوده الحالية. وقد مثّل الميثاق -  بحسب تعبير بشاره الخوري - "انصهار عقيدتين متباينتين متضاربتين، ترمي الاولى إلى إذابة لبنان في غيره، وتريد الثانية بقاءه محفوفا" بحماية أو وصاية أجنبية؛ فجاء الميثاق وأقصى، بالتفاهم والرضى، تينك العقيدتين المتنافرتين وأقام بدلا" منهما عقيدة واحدة وطنية لبنانية: تعايش سليم بين جميع طوائف البلاد، وبالتالي إقامة دولة وإنشاء وطن" . كذلك وضع الميثاق اساس "ديموقراطية توافقية" هي الانسب لأي مجتمع مركب على غرار المجتمع اللبناني.

إن بناء الدولة في العهد الاستقلالي جاء منسجما" إلى حد كبير مع طبيعة المجتمع اللبناني وخياراته الاساسية. ومن هذا الانسجام بالضبط استمد النظام اللبناني قوته الاساسية رغم وجوده المستمر عند تقاطع الاهواء والتيارات الاقليمية والدولية المختلفة التي كان كل منها يجد في الداخل اللبناني صدى قويا" نظرا" لتعقّد هذا الداخل وانفتاحه معا". إن انسجام الدولة مع المجتمع أتاح للدولة أن تكون راعيا" للخيارات الكبرى، رغم تخلف السلوك السياسي في كثير من الاحيان.

هذا الامر سمح للمجتمع أن يقدم تجربة حضارية مميزة على صعيد العيش المشترك والتفتُح الانساني. فقد استطاع لبنان ما قبل الحرب أن يكون فسحة مميزة يختبر فيها الانسان قدرته على التفاعل مع الآخر، واستيعاب التنّوع، وإعادة صياغته، مقدّما" بذلك مساهمة حقيقية في إغناء الحضارة العربية والانسانية عامة.

ولقد قدّم لبنان  نموذجا" لنمط حضاري في البحث الدائم عن العيش والترقّي قائم على أسس التسوية والتوافق والانفتاح، وعلى التأليف المتنوّع الذي يغتني بعناصره المكوّنة فيسعى إلى تجاوزها من دون إلغائها. وهذا النمط الحضاري عبّر عن نفسه في التسويات التي تضمنتها التجربة السابقة: تسوية بين بنى اجتماعية تقليدية ومقتضيات الحداثة، تسوية بين الانفتاح على العالم والمحافظة على الهوية، تسوية بين ضرورات الدولة واستقلالية المجتمع، تسوية بين معتقدات دينية مختلفة وانتماءات سياسية تبدو احيانا" متعارضة ، وحساسيات متنوعة …

شكّل هذا النمط الحضاري القائم على التجربة اليومية لمجتمع شديد التنّوع الاساس في التجربة اللبنانية. وبالتالي فإن تمسك اللبنانيين بوطنهم لا ينبع فقط، كما في مجتمعات اخرى، من اعتبارات تاريخية أو قومية، بل هو مرتبط ارتباطا" شديدا" بأسلوب الحياة الذي ولّده هذا النمط الحضاري والذي لا يمكن اختزاله من قبل فريق واحد في لبنان، لانه يشكل تعبيرا" عن تفاعل الاطراف مع بعضها، وليس انجاز جماعة دون اخرى. وخير دليل على ذلك هو ان المحاولات التي بذلها اطراف الصراع في لبنان بعد اندلاع الحرب لبلورة البدائل من هذه التجربة باءت جميعها بالفشل. فانفصال المجموعات اللبنانية بعضها عن بعضها الآخر حوّل الجماعات كافة أقليات متناحرة، محكومة بعقد قديمة وهموم ضيقة. ولقد اثبتت تجربة الحرب أن استقطاع الطوائف لرقع جغرافية معينة، وتحصين نفسها داخلها، وسعيها إلى تكوين دورة إقتصادية خاصة بها، واعتزالها الصالح العام الذي هو صالح مشترك بالتعريف، بدعوى البحث عن الامان والموقع السياسي الخاص، انتهى إلى تدمير ذاتي لكل طائفة، تجلّى مزيدا" من الذعر عوض الطمأنينة، ومزيدا" من الاستتباع للخارج عوض الفاعلية الخاصة، ومزيدا" من التراجع الاقتصادي عوض الكفاية.

إن اصحاب الذاكرة من اللبنانيين يفهمون جيدا" معنى تلك التجربة الانسانية المميزة. وهي تجربة لم تفتقر إلى شهادات معتبرة، عربية وأجنبية، على مدى اكثر من نصف قرن. حسبنا أن نشير إلى الشهادات التي قدمها أخيراً الارشاد الرسولي ووزيرة الخارجية الاميركية مادلين أولبرايت والرئيس الايراني سيد محمد خاتمي وغيرهم من أعلام الفكر والسياسة على الصعيد العالمي.


شهادة المجمع الراعوي من أجل لبنان:
"للبنان وجه بارز يميزه: ففيه سبع عشرة طائفة (…) يعترف بها الدستور رسميا، وهي تعيش فيه متساوية في الحقوق والواجبات. هذا الوضع، على بساطته الظاهرة، فريد في العالم. وهذا ما حمل قداسته على القول: "لبنان اكثر من بلد. انه رسالة حوار وتعايش" ولا غرو ففي لبنان، ولاول مرة في التاريخ، صمم اتباع هذه الديانات الأكثر شيوعا في العالم، بارادة صريحة معلنة، وعبر اتفاقات خطّية وشفهية ان ينتقلوا من مجابهة مزمنة وشاملة إلى تعايش اخوي وراسخ.
في ما عدا لبنان من الدول، حيث الشعب يضم اكثر من مجموعة دينية، تجد هذه الطوائف ذاتها اقليات بعضها بازاء بعض. اما في لبنان فالمسيحيون والمسلمون سواسية. انه قدر سعيد، عبر التاريخ، يبعث عند المواطنين اللبنانيين تلك الرغبة في ان يبنوا معا مصيرا واحدا (…) فإذا زال لبنان الذي عكس، رغم كل شيء ماضيا وحاضرا، في واقعه ومؤسساته، ارادة تعايش مرموقة، فزواله يجر على البشرية جمعاء، تقهقرا حقيقيا وخطيرا على طريق التفاهم والاحترام المتبادل للفوارق القائمة بين البشر.
شهادة وزيرة خارجية الولايات المتحدة، مادلين اولبرايت (بيروت – 15/9/1997):
"إن لبنان حصل تاريخيا على  احترام الجميع لقدرته على التماسك رغم تعدد الثقافات والحضارات فيه. وقد عرف عنه خصوصا التسامح الديني. إن تعافيه اليوم من فترة التفكك يجب ان يكون عبرة لمناطق اخرى ممزقة كالبوسنة والهرسك (…) البعض يجادل بأن اصحاب الخلفيات المتنوعة لا يمكن ان يعيشوا معا" في سلام، اميركا في احسن حالاتها هي الشهادة الحية المناقضة لهذا القول. إن مواطنينا هم من كل عرق وثقافة موجودة على الارض، ولبنان ايضا" كان نموذجا لدول اخرى، بفضل الموزاييك الذي يمثله المجتمع اللبناني…" 
شهادة الرئيس الايراني سيد محمد خاتمي (النهار 97/10/97 ):
"إن لبنان لوحة عريقة جيدة وجميلة من كل الاحاسيس البشرية… الشيء الذي نريده نحن هو أن يكون لبنان حرا" ومرفوع الرأس… ونرى ان عروس الثقافة والحضارة في الشرق الاوسط سترفع رأسها مرة اخرى عاليا". 
شهادة المدير العام السابق لمنظمة اليونسكو رينه ماهو (1975):     
"إن لبنان الحديث أعطى المثل على نمط حضاري ينبع مباشرة من بنيته المركّبة. وإن التسامح الديني والايديولوجي الذي كان سائدا لفترة قريبة خلت، والاحترام، والقبول بتنوّع المفاهيم والعادات، وهو تنوّع مطلوب بوصفه مصدر غنى وإثراء، والحث الدائم على تبادل الافكار وعلى التفاهم المشترك، والحكمة الفطرية التي كانت تجعل من المواجهات الحادة لحظة يواكبها البحث عن تسويات عملية - وحرية التعبير التي تجعل الحوار ممكنا، وأخيرا الانفتاح على العالم والدعوة إلى العالمية، وهذا ما مهّدت له التجربة اليومية لمجتمع شديد التنوّع: كل هذه المعالم التي ترتبط بجوهر الحضارة نفسها هي معالم نادرة، ولا يجوز أن نقبل، وببساطة، رؤية النبع ينضب حيث كنا متأكيدين من وجود هذه المعالم بوفرة".

كيف استطاع المجتمع اللبناني صنع تلك التجربة رغم العواصف الداخلية والخارجية ورغم الخلل السلوكي والبنيوي على صعيد السياسة والدولة؟ هناك عوامل ومعطيات ساهمت في هذا الامر لعل أهمها أربعة :

- لقد بدا المجتمع اللبناني على الدوام أقوى وأغنى من دولته واكثر تدبيرا منها، مستفيدا من امتناع مصادرة الدولة لخياراته ومبادراته, ويمكن التحقق من ذلك اذا لاحظنا أن الازدهار الذي عرفه لبنان (اقتصاديا وعلميا وثقافيا) كان أساسا من صنع المجتمع. ولئن كانت قوة المجتمع قد عصمته من سطوة الدولة وسمحت له بالتوازن معها – بخلاف تجارب أخرى في محيطنا العربي - إلا أن المبالغة على هذا الصعيد أدت إلى أن يجتاح المجتمع الدولة (فترة الحرب) وهو ما ينبغي التفكُر فيه ملياً لتداركه.

- إن الاعتراف المتبادل بين المجموعات اللبنانية واعتراف الدولة بالمجموعات، هذا الاعتراف الصريح المزدوج هو الذي أنشأ الديمقراطية اللبنانية وشكل حاجزا دون صعود سلطة ديكتاتورية على مجتمع موحد قسراً بدعوى الوطنية والامن القومي والانتظام العام، كما هي الحال في معظم البلدان في منطقتنا. لم ينعم اللبنانيون وحدهم بتلك الديمقراطية (بمن فيهم أولئك الذين ظلوا يشتمونها) وإنما قدمت ايضا" متنفسا" لكل العرب الهاربين من ضيق مساحة الحرية والديمقراطية في بلدانهم.

- إن حيوية المجتمع اللبناني والديمقراطية الناشئة عن توازنات هذا المجتمع أنعشتا الحرية المتأصلة في نفوس اللبنانيين. ولئن بدت هذه الحرية بلا حدود في معظم الاحيان، فإنها تبقى الشرط الضروري لأي ابداع على أي صعيد. فالقول بأن لبنان والحرية توأمان هو قول يتوافق مع واقع الحال.

- إن حيوية المجتمع اللبناني في اجواء من الحرية والديمقراطية أطلقت تفاعلات على غير صعيد وانتجت طبقة متوسطة واسعة جدا (في المعنى الاقتصادي- الاجتماعي والثقافي- المعرفي والعلائقي – التبادلي) شكلت عامل استقرار ورافعة تقدم ومستودعا لقيم التوسط والاعتدال.

ما تقدم من عوامل ومعطيات يدخل في صلب التجربة الانسانية اللبنانية ويساعد في تفسيرها في الوقت ذاته. كذلك فأن رسوخ تجربة العيش المشترك في المجتمع اللبناني ساعد هذا المجتمع على مغادرة الحرب بأقل الخسائر الممكنة واستعادة السلم الاهلي بسرعة لافتة بعدما اصطرعت على ارضه كل القوى الاقليمية والمحلية في حلقات عنف متصلة على مدى 15 سنة.

ما الذي تسبب في ضرب التجربة اللبنانية ؟ هناك عاملان اساسيان: الأول خارجي والثاني داخلي: 

العامل الخارجي تمثل في قيام دولة اسرائيل . فلم يمضِ سوى خمس سنوات على قيام التجربة اللبنانية، في ظل الميثاق وتنامي تيار الاعتدال في مختلف الأوساط وتحييد العوامل الخارجية نسبياً ، حتى قامت دولة اسرائيل. فشكّل قيامها أول التحديات الكبرى للتجربة اللبنانية، إذ أدى إلى تبديل جذري في طبيعة المنطقة . ومن أهم التحولات التي تسبب بها قيام الدولة العبرية:


    تحويل الشرق الاوسط ساحة صراع رئيسية بين الشرق والغرب.
    قيام أنظمة حكم راديكالية في العالم العربي, الأمر الذي حرم اللبنانيين مناخ الإنفتاح والحرية الذي كان يشكّل الشرط العربي لنجاح تجربتهم وساهم في اعادة تأزيم المشكلة الكامنة بين لبنلن وسوريا منذ تكوين الدولة اللبنانية.
    نشؤ المشكلة الفلسطينية وإنتقالها في ما بعد إلى لبنان حيث شكلّت عنصراً في تفجير الصراع الداخلي.
    إثارة مسألة الاقليات الدينية والعرقية في المنطقة .


فعاد الخلاف على هوية لبنان وطبيعة نظامه السياسي إلى الواجهة في موازاة الصراع العربي – الاسرائيلي. 
وفي خضم الصراع العربي – الاسرائيلي ما بين 1948 و 1975 تعرَّض لبنان لازمات قاسية كان أبرزها أحداث 1958 التي أمكن تجاوزها سريعاً، ثم وجود المقاومة الفلسطينية على أرضه اعتباراً من العام 1969 الأمر الذي أحدث تفاعلات وتراكمات سلبية حملت اللبنانيين وحملوها معهم إلى الحرب التي إندلعت عام 1975 

العامل الداخلي الذي كان له أثر سلبي على تطور الحياة السياسية اللبنانية وعلى العلاقة بين الدولة والمجتمع تمثل في عدم المواءمة الواضحة والصريحة بين شِرعتين قويتين، كل واحدة منهما تنتمي إلى فلسفة مغايرة للأخرى على صعيد الاجتماع السياسي, ظلتا تحكمان الحياة اللبنانية معاً وبعلاقة غلب عليها طابع الارتجال والاستنساب. هاتان الشرعتان هما الميثاق والدستور.
- فالميثاق نصٌ شفوي، يجد ترجمته في سلوك سياسي عام لا في مؤسسة مخصوصة به، ويستمد قوته من انطباقه على واقع المجتمع اللبناني، وينتمي إلى "فلسفة تعددية" في علم الاجتماع السياسي والى ديمقراطية ذات طبيعة توافقية.
- أما الدستور فهو نصٌ مكتوب، يجد ترجمته في مؤسسات، وينتمي إلى "فلسفة انصهارية" في علم الاجتماع السياسي ، قائمة على أخذ المواطن-الفرد وحده في الاعتبار، مستمدة من علمانية فرنسية تنتمي بدورها إلى عصر الانوار الاوروبي والى مفهوم "الدولة – الأمة".
حاول الدستور الجديد (بعد اتفاق الطائف) تجاوز هذا التناقض فأدخل في صلبه نصوصا ومبادىء ميثاقية. ينبغي تطوير هذه الإيجابية، إنما بعد التحقق من تطبيق وثيقة الوفاق الوطني والدستور وليس قبل ذلك.

إن تجربة الميثاق نجحت إلى حد كبير في إقامة دولة الخيارات الاساسية (الديمقراطية التوافقية، الانفتاح الثقافي، الاقتصاد الحر، حرية التعليم …) ولكن الميثاقيون أنفسهم ممن وضعوا الميثاق أو حملوه لاحقا"، فشلوا في إقامة دولة القانون والمؤسسات، فتحكمت العادات السياسية السيئة بالدولة، ما جعل المواطن يشعر على الدوام بانتقاص حقوقه.

من ابرز تعبيرات الخلل في العلاقة بين الدولة والمواطن هو الحاح الدولة على العناية بنفسها خارج هواجس المواطن وطموحاته، ما دفع المواطن إلى البحث عن ذاته ومصالحه وأمنه بعيدا" عن إطار الدولة.

اتفاق الطائف (1989)

انعقد اتفاق الطائف بين اللبنانيين في إطار "تسوية" مسيحية – اسلامية تمثلت بقبول الاصلاح السياسي والتوازن في السلطة، والتأكيد على عروبة لبنان في مقابل التأكيد على السيادة والاستقلال ونهائية الكيان وانسحاب القوات غير اللبنانية. ولئن كانت هذه التسوية قد بدت "مقايضة" ضمنية فإنها صحيحة وواقعية. وتكمن أهمية اتفاق الطائف في أنه تصدى لمعالجة أسباب تاريخية عميقة تثير صراعا" داخليا" وتسهل الطريق أمام التدخلات الخارجية في الشؤون اللبنانية. كذلك أقر الاتفاق بوجود انتماءات متعددة تساهم في تكوين الهوية الوطنية وحاول تنظيم مجالات تعبير كل منها:

    دائرة الانتماء الاقتصادي-الاجتماعي: أقّر الاتفاق بوجوب انشاء مجلس اقتصادي – اجتماعي محرر من القيد الطائفي يتمثّل فيه اللبنانيون بحسب موقعهم في عملية الانتاج.
    دائرة الانتماء الطائفي: أقّر الاتفاق بأن السلطة في لبنان تستمد شرعيتها من قدرتها على الحفاظ على "العيش المشترك" بين اللبنانيين، ما يعني أنه ينبغي على السلطة أن تأخذ في الاعتبار الواقع الطائفي للمجتمع. كما أكد الاتفاق وجوب انشاء مجلس للشيوخ على أساس طائفي في حال إلغاء الطائفية السياسية. وأعطى الاتفاق للطوائف حقوقا" متساوية في الدولة من خلال اعتماده مبدأ المناصفة في مجلس النواب ومن خلال نقل السلطة التنفيذية إلى مجلس الوزراء.
    دائرة الانتماء الوطني: اكد الاتفاق نهائية الكيان اللبناني وأعطى المواطن – الفرد فرصة الانتماء إلى الوطن وإقامة علاقة مع الدولة دون المرور بالطائفة.
    دائرة الانتماء العربي: كرّس الاتفاق انتماء لبنان وهويته العربية، الامر الذي لم يعد يتناقض مع الوطنية اللبنانية بل اصبح مكملا" لها.

كان مأمولاً  أن تشكل الدولة المنبثقة عن اتفاق عامل اطمئنان للجميع. غير ان التطبيق جاء منافيا" لمبدأ التكافؤ والمساواة بين الجماعات ولمبدأ المشاركة الحقيقية وما تستلزمه من تمثيل صحيح على صعيد الحكم والدولة. ولعل الخطوة الاساس في الانحراف عن الاتفاق كانت الانتخابات النيابية في العام 1992 التي دفعت المسيحيين إلى الانكفاء وأتت بمجلس يفتقر إلى شرعية فعلية تؤهله لاختيار سلطة تنفيذية منسجمة معه، الامر الذي تسبب بضرب وحدة الدولة وخلق خطوط تماس في داخلها بين سلطة تشريعية عاجزة عن مراقبة عمل السلطة التنفيذية وضبطه وتوجيهه وسلطة تنفيذية تعمل وكأن شرعيتها لا تنبع من السلطة التشريعية. ولم تسمح انتخابات العام 1996، التي وصفها الرئيس سليم الحص بأنها الاسوأ في تاريخ لبنان، بتصحيح الخلل الذي تسببت به انتخابات العام 1992 .

أدى هذا الخلل البنيوي إلى توجيه ضربة قاسية إلى مفهوم الدولة، وقد تجلى ذلك من خلال:
    امتناع تداول السلطة طوال الفترة الماضية والحؤول دون وصول الكفاءات القادرة على النهوض بأعباء المرحلة والميثاق الجديد.
    استصدار قوانين مخالفة لمبدأ "عمومية القانون" والاساءة إلى القضاء من خلال التدخل السياسي في عمله.
    العجز عن اجراء اصلاح اداري بسبب اصرار أقطاب السلطة، وباعترافهم، على التدخل السياسي في هذا الشأن.
    اعتبار الحكم طريقا" لتقاسم الدولة وتحقيق مكاسب ذاتية.
    نشوء أزمة اقتصادية اوصلت البلد إلى شفير الافلاس وفرضت على اللبنانيين أعباء إضافية قضت على امالهم في حياة أفضل بعد معاناة الحرب الطويلة.

إضافة إلى ذلك، عاد الاحتقان الطائفي على نحو يذكّر بأجواء الحرب. فلقد أدى تهميش موقع المسيحيين في الدولة إلى خلل غير شكلي في الصيغة، كما أدى إلى وجود أحادية اسلامية تنطوي على ثنائية مذهبية (سنية وشيعية) تقوم بدورها على نصاب من التنازع شديد الوضوح ناجم في بعض جوانبه من غياب الشريك المسيحي أو تغييبه. وقد أعاد هذا الوضع البلاد إلى منطق الثنائيات الطائفية الذي هو منطق خطير تمّ اختباره على مدى عقود. فالثنائية الدرزية-المارونية التي يعود تاريخها إلى عهد الامير فخر الدين انتهت بحرب أهلية دموية. والثنائية المارونية – السنية التي حلت مكانها انتهت ايضا" بحرب مدمرة. اما "الثنائية" السنية – الشيعية، فقد ولدت هزيلة لانها في الواقع عبارة عن "أحادية" طائفية تلغي مبدأ الشراكة الاسلامية-المسيحية الذي يقوم عليه لبنان.

هذه الممارسات التي اوصلت البلاد إلى طريق مسدود دفعت البطريرك نصرالله صفير إلى التنبيه باكرا" إلى خطورتها. فقد وصف بتاريخ 1/4/1994 الوضع الناجم عن سوء تطبيق اتفاق الطائف على الشكل الآتي: "هذا الجو من القلق الذي نعيش فيه جميعا" يحمل على طرح الكثير من الاسئلة التي لا يصعب ايجاد اجوبة عنها (…) : لماذا ينكفىء معظم المسيحيين عن المشاركة في مسيرة الدولة ؟ لماذا لا يعود من هاجر منهم ليساهم بما لديه من طاقات في اعمار الوطن ؟ لماذا لا يزالون يشكون فيما سواهم راض عن وضعه ؟ لماذا يتصرفون كأنه لم يبق لهم دور في لبنان مثلما لغيرهم من ابنائه ؟ لماذا يفكر بعضهم بإعداد مستقبل لاولاده خارج لبنان ؟ لماذا يشعرون بالخيبة والمرارة (…) ؟ 
"وفي اعتقادنا ان الاجوبة عن مثل هذه الاسئلة يمكن اختصارها بكلمة واحدة هي: فقدان التوازن في توزيع الادوار بعد الوفاق- التسوية الذي وضع حدا للحروب التي توالت على ارضنا طوال سبع عشرة سنة. ونقولها ببساطة: ان الدولة لم تعامل جميع الناس على قدم المساواة (…)
"واذا كنا نجاهر بما نجاهر به فليس تجاهلا لما تقوم به الدولة في بعض القطاعات، بل لنحمل المسؤولين على تدارك الامور وازالة الخلل، قبل فوات الاوان. والمسيحيون لا يطالبون بامتيازات ولا يريدون الهيمنة على احد، بل يريدون ان يشعروا بأن لهم ما لسواهم في هذا الوطن وعليهم ما عليه. (رسالة عيد الفصح المجيد- 1/4/1994).
إن الخروج من الازمة يتطلب العودة إلى أساس اتفاق الطائف، أي إلى مبدأ المشاركة والتوازن كمدخل "إجباري" لبناء دولة القانون والمؤسسات. وينبغي أن نتذكر دائماً العبارة الميثاقية الواردة في مقدمة الدستور وهي أنه "لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك". غير أن العودة الى الحياة الميثاقية السليمة، كجزء من العودة الى معنى لبنان، ليست مجرد قرار يمكن أن تأخذه بعض القيادات السياسية، سواء كانت في السلطة أو خارجها. فقد دلت التجربة على أن مثل هذا القرار متعذّر ما لم تتوافر له قوة كبرى دافعة، "كتلة تاريخية" - بالمعنى المشار اليه آنفاً - تشكل في الحد الأدنى تياراً ضاغطاً، كما تشكل في مستوى متقدم رافعةً تاريحية تحترم حقيقة لبنان وتصون العيش المشترك وتنهض بأعباء التغيير المطلوب.

نعتقد أن الاتفاق على معنى لبنان يمثل المدخل والشرط الضروريين لتكوين الكتلة اللبنانية المنشودة … والباقي تفاصيل. كذلك فإن التصدّي للقضايا الوكنية الكبرى وتصدّر الحياة العامة يتطلبان الوقوف على هذه الارض وليس على أرض أخرى.

منطلقات للحوار حول معنى لبنان

إن احترام حقيقة لبنان وصون العيش المشترك يفرضان الاعتراف بأمور هي من الخلاصات الاساسية للتجربة اللبنانية ولتجارب اخرى كثيرة في العالم.

1- إن هوية الانسان في لبنان هوية مركّبة تحتوي على انتماءات متعددة (عائلية، مهنية، وطنية،  طائفية، ثقافية، انسانية…) يحدد بعضها تاريخ المجموعات اللبنانية، وبعضها الآخر التكوين الطبيعي للبلاد (الساحل والجبل والسهل الداخلي) إضافة إلى عوامل أخرى، وهذه الهوية المركبة ليست تراكما" عشوائيا" للانتماءات المتعددة، انما هي تعبير عن خلاصة موّحدة للشخصية الانسانية. ولا يتم انتقال الانسان من دائرة الانتماء الصغرى إلى الدائرة الكبرى الا اذا اطمأن إلى حضوره في الاطار الاوسع، واطمأن في الوقت ذاته إلى أن هذا الانتقال لن يجعله يفقد الاطار السابق.
إن اختزال الهوية بأحد مكوناتها يؤدي إلى احداث فصل غير طبيعي بين دوائر الانتماء المختلفة للانسان ويضعف تماسك شخصيته وتكاملها، ما يدفعه عند الازمات إلى الهروب إلى دائرة أوسع أو أضيق من الدائرة المأزومة. والتجربة اللبنانية قدمت نماذج عن هذين الانفصام والهروب: فعندما تهتز دائرة الانتماء الوطني لدى الشخص، نراه يهرب إلى دائرة أوسع (قومية أو أممية) أو أضيق (طائفية أو عائلي.

2- إن "الدولة الحديثة" في البلدان العربية (وبعض البلدان الاسلامية، تركيا مثلاً) حاولت منذ البداية التماهي مع النموذج الغربي - تحت عنوان الحداثة - فاصطدمت بمجتمعاتها، وما زال سوء التفاهم هو القاعدة التي تحكم العلاقة بين الطرفين.
إن الحل الذي اعتمده الغرب تاريخيا" لمعالجة مسألة التعدد والتنوع في المجتمع لم يكن مناسبا" لوضع مجتمعاتنا واصبح الغرب نفسه يعيد النظر في جدواه. فالحل المعتمد كان يقضي بالفصل بين الانتماءات المتعددة على قاعدة الخاص والعام واعتبار الانتماءات الدينية والاتنية والثقافية والمناطقية انتماءات تعود إلى المجال الخاص، وبأنه ليس لها بالتالي من تعبيرات على صعيد الدولة، وتم التركيز على الانتماء القومي باعتباره انتماء" موحّدا" للمجتمع. هذا الاتجاه ساد بأشكال مختلفة في دول اوروبا منذ القرن التاسع عشر وسمح بتشكل الدول القومية وتوحيد المجتمعات الاوروبية. لكن العنف الذي تم لجمه في داخل المجتمعات من جراء هذا التوحد القومي انتقل من الداخل إلى الخارج. فكانت نتيجته الحروب القومية المتواصلة التي ادمت اوروبا طوال قرنين حيث احصى المؤرخون حصول 150 نزاعا" قوميا" أودت بحياة ما لا يقل عن 80 مليون انسان.
بعد ذلك بدأت اوروبا، التي عانت من ويلات الحروب القومية، تركيز الجهود على توسيع دائرة الانتماء الموحّد للمجتمع من الدائرة القومية إلى الدائرة الاوروبية في محاولة لالغاء مصدر العنف السابق، أي التعدد القومي، وتحويله رافداً من روافد الانتماء الاوروبي. لكن هذه القفزة نحو الانتماء الاوسع تزامنت مع استنهاض للتمايزات القديمة التي كانت القومية قد عملت على طمسها. فتشهد اوروبا اليوم تطورا" في اتجاهين متناقضين: نحو الاوسع في اتجاه تخطي القوميات ونحو الاضيق في اتجاه العودة إلى الانتماءات  القديمة، ما دون القومية. وبرز أخيراً معطى جديد قد يزيد في تعقيد المسألة وهو العولمة التي تضع الانسان امام خيار مستحيل: فإما فقدان الهوية بداعي الانفتاح وصولا" إلى نفي الذات، وإما التمسك بشكل عصبي بهويته خوفا" من الذوبان مما قد يسفر عن انكفاء يصل إلى حد نفي الآخر.

3-  إن الدولة في لبنان ليست دولة دينية ولا تستطيع أن تكون دولة كلانية (توتاليتارية). فهي لا تشكل اختزالا" للمجتمع أو تعبيرا" متعاليا" عليه. إن العلاقة بين الدولة والمجتمع في لبنان محكومة بمعادلة قيادة وانقياد في الوقت نفسه: قيادتها للصالح العام المشترك، وانقيادها للغايات التي يحددها المجتمع، فلا الدولة وصية على المجتمع، تتصرف بمعزل عن توجهاته، ولا المجتمع قادر على ان يحلّ محلها.
هذا يتطلب رسم حدود واضحة بين الدولة والطوائف بما يؤمّن من جهة حيزا" مستقلا" للدولة في إدارة الشأن المشترك، ويؤمّن من جهة أخرى مشاركة الطوائف في تعيين الخيارات الكبرى المتعلقة بأسس العيش المشترك. 

4- إن القانون وحده لا يحدد شرعية اجراء يتعلق بالعيش المشترك، فاتفاق القاهرة في العام 1969 كان اجراء" يقرّه القانون ولا يقرّه ميثاق العيش المشترك، كذلك كان اتفاق 17 أيار في العام 1983. ومن هنا أهمية ما جاء في مقدمة الدستور من أن "لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك".
لذلك ينبغي القول بأن تجاوز الازمة الوطنية التي يعيشها لبنان منذ توقف الحرب لا يتم بتطبيق القانون وحده وانما بتطبيق وثيقة الوفاق الوطني.

5- إن لحظات التوتر والانقطاع في تاريخ العيش اللبناني المشترك لم تستطع أن تهدر تراكمات هذا العيش ولا أن تحجب رغبة اللبنانيين في إستئنافه بعد كل إختلال.
إلى ذلك فإن تجربة الحرب الاخيرة بنتائجها الكارثية على الجميع كان من شأنها إعادة الوعي إلى اللبنانيين بوحدة المصير. وهذا الوجه السلبي استفادت منه كل الشعوب التي مرت بتجارب مماثلة. فهو الذي شكّل الاساس في انتقال المجتمعات الاوروبية من الحروب القومية إلى مساحة جديدة من التواصل القائم على الاحساس بأهمية السلم وصون المصلحة المشتركة.
 إن قدر اللبنانيين هو ان يتفقوا على اقامة وطن بشراكة حقيقية. على ان الشراكة الحقيقية تفترض المساواة التامة في الوطن من دون مرجّحات داخلية عددية لاي طرف، أو خارجية إضافية. فالاستقواء بالعدد يفسد الشراكة، والاستقواء بالخارج يبطلها. لان قيمة كل طرف هي في ذاته، وصيغة الوطن اللبناني هي صيغة نوعية لا كميّة، وتاليا" فإن معنى لبنان ودوره يأتيان من انسجام تنوّعه داخل الوحدة، لا من تراكم اعداد مواطنيه من هذا الفريق أو ذاك. وخارج هذه المعادلة لا يكون لبنان.


جاء في خطبة المفتي حسن خالد في عيد الاضحى (17/9/1983) 
"إن هذه الحرب اللبنانية – اللبنانية كان يمكن تلافيها لو اعتمدت الاطراف المتصارعة منهجية عقلانية صادقة لتحقيق اهداف لبنانية واضحة بوسائل انسانية مشروعة ممكنة. ولو تساءلنا عن هذه المنهجية العقلانية الصادقة (لوجدنا أن أهم مرتكزاتها) التسليم سلفا" ومن كل طرف من الاطراف اللبنانية، للطرف الآخر بأن له مطالب أو ضمانات، وبان عنده حقوقا" أو مخاوف توضع كلها اثناء التحاور العقلاني موضع الاحترام والاعتبار والمراعاة".
الشيخ محمد مهدي شمس الدين، رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى، في مؤتمر "الاسلام والمسلمون في عالم متغيّر (بيروت 27/4/1994) : "ان المشكلات والمخاطر المحدقة بنا لا تفرّق بين المسلمين والمسيحيين في لبنان وفي العالم العربي والاسلامي. وان هذه الشراكة هي شراكة الحياة والمصير: اما ان ننسجها خيطا" خيطا"، ونبنيها حجرا" حجرا"، أو لا تقوم لنا قيامة. وكما لا يمكن قيام مشروع مسيحي خالص أو مشروع اسلامي خالص في لبنان، كذلك لا يمكن اقامة مشاريع طائفية أو مذهبية في عالمنا الاسلامي والعربي. وبخلاف ذلك فاننا ننحر بعضنا بعضا"، ونهدم بيوتنا بأيدينا وأيدي أعدائنا …"

6- إن السيادة والاستقلال في لبنان متلازمان تلازما" كاملا" مع الوحدة الوطنية؛ فلا استقلال ولا سيادة في ظل التناحر الداخلي. كما أن الوحدة الداخلية لا يفرضها فريق على آخر، وإنما تأتي عبر البحث الدائم عن تسوية مبنية على التوازن، ساعية إلى  الاقتراب من العدالة. وقد اثبتت تجربة الحرب أن أي انكسار في الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين يستجّر انكسارات متتالية داخل كل جناح طائفي، ثم يتوغّل في الطائفة الواحدة والمذهب الواحد في اتجاه تفتّت لا قرار له. وعليه، فإن حماية أية طائفة أو مذهب تبدأ من حماية الوحدة الوطنية وليس من نقضها أو اضعافها؛ ولا أمن لاية جماعة طائفية خارج الامن اللبناني الشامل.


في جلسة نيابية بتاريخ 29 آب 1957، لخص حميد فرنجية مفهومه للوحدة الداخلية والميثاق الوطني بقوله لوزير الخارجية، شارل مالك الذي كان يدافع عن "مشروع أيزنهاور" الشهير: "الميثاق الوطني ، ياسيدي طعن في صميمه، واذا كنا نريد ان نعمل عملا نكلأ به الجراح، فاسمح لي ان اعطيك القاعدة الذهبية، وقد عبرت عنها مرارا" ، وكنت حاكما" مسؤولا"، القاعدة الذهبية هي ان الشر يصبح خيرا متى يتفق عليه اللبنانيون، والخير يصبح شرا متى يختلف عليه اللبنانيون".

7- إن معنى لبنان وصيغته الخاصة يقومان على اساس مفهوم التسوية في الاجتماع السياسي؛ وهو مفهوم أصيل وبنّاء في تكوين المجتمعات وإقامة مصالح الجماعات، بخلاف ما قد يرى البعض من أن مفاهيم الغلبة ومحاولة إلغاء الآخر المختلف تكوينا" ومصالح هي المحرّك الاساس للتاريخ الاجتماعي. وفضلا" عن هذا، فإن فكرة التسوية في المجتمع اللبناني تفرضها أصالة التنّوع ومشروعية التعدّد، وتدعمها تجربة الديمقراطية التي تعني قبل أي شيء قبول الآخر المختلف وعدم ادِّعاء احتكار الحقيقة. ولا محلّ، في تجربة الاجتماع اللبناني وفي طبيعة التركيبة السكانية والسياسية، لأي برنامج يحمل الحدّ الأقصى من المصالح والتصورات الأيديولوجية لأي طائفة أو مذهب أو حزب؛ فالعمل على تجسيد المصالح القصوى مشاريع سياسية هو معادل التقسيم والحرب الأهلية.
إن الجنوح إلى التسوية بين المتعارضات،  واختيار مفاصل ينعقد حولها إجماع أو شبه إجماع وطني، هما في أساسيات التجربة اللبنانية وشرط استمرارها وفتح افقها لتوليد مفاهيم ومثالات مشتركة. فالتسوية في واقع الاجتماع السياسي اللبناني ليست خيارا" من بين خيارات، وإنما هي الخيار الطبيعي الذي يمكن أن يجد الجميع أنفسهم فيه. أما خيارات التطرّف – وإن نجحت قسرا" لفترة محددة – فإنها تؤسس لمضمرات وكمائن تتحيّن دائما" اللحظة التاريخية المناسبة للإنقلاب، وهي لحظة تنتمي عادة إلى زمن سيادة الخارج على الداخل.

8- إن التجربة اللبنانية تكتسب اليوم أهمية خاصة بعد فشل نموذج الدولة الذي كان قد ساد العالم بعد الحرب العالمية الثانية. فالصراعات التي نشهدها اليوم في دول اعدة في العالم – من افغانستان إلى يوغوسلافيا السابقة مرورا" بدول البلقان ودول وسط افريقيا وصولا" إلى عدد من الدول العربية – ناجمة عن عجز في ابتكار صيغ جديدة لتنظيم شؤون المجتمعات المتعددة دينيا" أو اثنيا" أو ثقافيا"، فيصار إلى اعتماد العنف ونظريات الانصهار سبيلا" لفرض التوحيد القسري. والعنف يوّلد العنف، بدليل ما نشهده في العالم من قتل ودمار يصلان إلى حد الابادة. ولا احد في منأى عن تلك الاخطار. 
وإذا كانت الحرب اللبنانية قد شكلت الاشارة الاولى لما سوف تكون عليه الحروب الآتية في نهاية هذا القرن، فإن تجديد التجربة اللبنانية بوجهها المشرق يحيي نموذجا" اكثر ملاءمة مع واقع التنوع والتعدد الذي يسود عالمنا والذي يحتاج إلى قدرة مميزة على ادارة الاختلاف ولجم مصادر العنف. هنا يكمن دور لبنان في هذه الحقبة من التاريخ. فاستعادة معنى لبنان ومعنى تجربته التاريخية لا يؤمّن ضماناً لمستقبل اللبنانيين فحسب، بل يشكل خدمة لمحيطهم القريب والبعيد ويساعد العرب على تجاوز هذه المرحلة الخطرة المسكونة باشباح الحروب الاهلية.


يقول الرئيس حسين الحسيني (زحله 1/3/1999): " لا معنى للعروبة إذا لم تكن دافعاً الى إحياء التجربة اللبنانية، وتجديدها، والحفاظ عليها، ولا معنى للعروبة إذا انعدم المثال اللبناني. أين العروبة اليوم ؟ إنها تبدو محتجزة في مفاهيم أو قضايا لم تعد صالحة لتحريك مسيرتها. ةالحقيقة إنها هنا، في هذا التحدي الذي هو: إحياء التجربة اللبنانية والمحافظة على المثال اللبناني. إن عروبة لبنان ليست صفة مضافة اليه، ونحن في غير حاجة الى تأكيد عروبة لبنان، نحن في حاجة الى لبنانية العروبة".

9- إن معنى لبنان ودوره هما حاجة إنسانية مستمرة لتفاعل خلاّق بين المسيحية والإسلام يمنح أبناءهما فرصة الإغتناء الروحي المتبادل من خلال العيش المشترك المؤسس على الحرية والمساواة في المواطنية، والقائم على التنوّع في إطار وحدة تحترم الإختلاف والتغاير، وتفهم منابعهما في التاريخ والدين والإجتماع، من غير أن ترفعهما إلى مصاف التناقض، أو تعمل على تغليبهما على عناصر التماثل والإتفاق، أو تسعى إلى تأبيدهما في الحاضر والمستقبل. وعليه، فإن العيش اللبناني المشترك في حدود الواقع ومثالات المرتجى هو إختيار حرّ يطلع من اقتناع، وليس جبرا" تمليه الصدفة التاريخية أو تحتمه إعتبارات السياسة والجغرافيا. إنه فعل إرادي يتجدّد، طورا" بعد طور، وتتجدّد معه الصيغ الناظمة له، ليبقى مشدودا" إلى غايته الاخيرة.

10- إن هذا المعنى الذي تنتمي إليه التجربة اللبنانية، وتسعى إلى تعميقه وتطويره، ينتمي بدوره إلى مجرى "حوار الحضارات" الذي لا يتوقف، وهو معنى منفتح بالضرورة على تجارب الحداثة والمعاصرة وعلى أي وافد ثقافي إبداعي. غير ان هذا الانفتاح لا يمكنه تحقيق غايته المرجوّة إلا مع تبلور الشخصية المتلقية وأصالتها، بحيث تتمكن من تمثُل الوافد لا إقتباسه، ومن توظيفه في بنيتها الخاصة المركّبة لا تفصيلها على قياسه. فالحداثة ليست إطارا" مفارقا" ننتقل إليه، ولا نموذجا" نقلّده، وإنما هي حالة نسهم في خلقها وتشكيلها إنطلاقا" من معطيات وجودنا وخصائصه، ومن إتصال حرّ بتجارب تراثنا وبآفاق مستقبل نرسمه باختيارنا. 
إن نجاح اللبنانيين في تعميق تجربتهم الإنسانية وتطويرها يقدّم إسهاما" أساسيا" في اشتقاق طريق عربية للحداثة.

كمال جنبلاط (لبنان في واقعه ومرتجاه – الندوة اللبنانية – 10/12/1956): العائلات الروحية اليوم تكاد لا تكون اديانا" على قدر ما هي مؤسسات اجتماعية وسياسية وعائلات روحية كبرى اجتماعية بالمعنى الصحيح… فالطابع السياسي أو بالاحرى الرابطة الاجتماعية والعصبية هي الغالبة… ويكاد يكون لبنان على حد تعبير الاستاذ جواد بولس، اتحادا" فيدراليا" للعائلات الروحية.
فهو في الحقيقة محاولة تأليف ضخمة ومحاولة تعاون وانسجام بين النصرانية والاسلام وجميع المذاهب والفرق والطرق الفكرية المشتقة عنهما والتي تكاد تزيد عن الستة عشر مذهبا" وفرقة التي هي، في الواقع البقايا التاريخية والرواسب الباقية للقضايا الفكرية والفلسفية التي خضت فيما قبل ضمير الشرق وعلى توالي الاحقاب وتفاعل العقل العربي الشرقي مع مختلف التيارات الحضارية الكبرى القادمة الينا من الشرق الاقصى والهند وايران وآسيا الوسطى والصغرى حتى اوروبا…
ان كيان هذا البلد الانتولوجي المعنوي قائم على مزج المتناقضات وربطها وبلورتها، قائم على التناقض ذاته… هو بحد ذاته مفارقة قومية وتاريخية خاصة. وقد لا تكون الوحيدة من نوعها (…) كما يتصور الكثيرون من البسطاء (…) ونسميهم ببسطاء بالمعنى الساذج، لانهم يفكرون بكل شيء وفق مثال واحد منطلقين من مفهوم واحد ومحاولين ادخال كل شيء ضمن نظرة واحدة، اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو حتلى فلسفية، للاوضاع وللاشياء… 
وهذا المزج ، هذا التناقض الذي نراه قد لا يكون كما قلت الوحيد من نوعه… بل قد يكون ظاهرة الحياة، علامة الحياة، حيوية الحياة، علامة الكينونة والصيرورة  لان الحياة بمطلقها قائمة على جمع التناقض وربط التناقض في كل حين في سمط عقد الوجود كما تنسجم حبات اللآلىء في العقد الفريد… 
ولبنان من هذه الوجهة ازمة دائمة ولكنه ازمة محلولة، لانها تخفي تناقضا" متبدلا" مستمرا". هكذا شاء القدر لبنان، وهكذا علينا ان نرتضيه ونرتجيه. 
الامام موسى الصدر (30/5/1969): "إن من يظن أن وجود الطوائف المختلفة في لبنان وتنظيم شؤون هذه الطوائف من أسباب ضعف الإحساس الوطني والقومي فقد ينظر إلى هذا الامر من خلال زاوية ضيقة. بل الطوائف المختلفة المنظمة منطلقات للتعاون ونوافذ حضارية على مكاسب لمليارات من البشر في هذا العصر وفي العصور الماضية، تدخل هذه التجارب على لبنان وتتبادل وتكوّن جسما" واحدا" لا يمكن أن ينقص عضو منه، وبالتالي يقوّي الوحدة الوطنية الانسانية".

11- إن العلاقة اللبنانية – السورية ينبغي أن تقوم على التكافؤ والمساواة. وهذا الامر لا يستقيم إلا باعتراف متبادل بالميزات الاساسية لكل من التجربتين اللبنانية والسورية: اعتراف لبناني بالدور الذي لعبته سوريا على صعيد المنطقة العربية في الحفاظ على الهوية العربية، واعتراف سوري بأهمية الصيغة اللبنانية وضرورة الحفاظ عليها باعتبارها نموذجا" متقدما" بذاته ويشكل حاجة للمنطقة العربية. إن هذا الاعتراف المتبادل، الذي يشكل الاساس في إقامة علاقة متساوية بين البلدين، ليس بالامر السهل:فهو يتطلب شجاعة في تخطي عقد الماضي، عقد اللبنانيين حيال سوريا وعقد السوريين حيال لبنان، ويتطلب صراحة لتخطي نفاق أهل السلطة حيال سوريا ومواجهة الواقع كما هو وليس كما نريده أن يكون، ويتطلب جرأة في المراجعة ومساءلة الذات، ذلك أن مسؤولية الاخفاق في تأمين علاقة سليمة بين البلدين لا تقع على فريق دون آخر، ويتطلب عقلانية وتعقلا باعتبار أن كلفة التفاهم، مهما انطوى على تنازلات متبادلة، تبقى أقل بما لا يقاس من كلفة النزاع أيا" كانت ذرائعه، ويتطلب أخيرا" ذكاء في تحديد مجالات التعاون بحيث لا يتم الامر وكأن الهدف منه هو تحقيق غلبة فريق على آخر.

12- إن الاجماع اللبناني على مقاومة الاحتلال الاسرائيلي أخرج قضية العيش المشترك من فخ اسرائيل التي كادت في السابق أن تقضي عليه. وشكلت المقاومة في مختلف اشكالها خط دفاع اساسياً عن هذا العيش المشترك، فضلا" عن كونها حقا" بديهيا" لكل بلد احتُلّت أرضه.

---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

(1)- اندره شدياق (محام) - انطوان الخوري طوق (باحث) - جان بديع حرب (محام) - جميل جبران (محام) - جورج شدياق (نقيب أطباء الاسنان سابقاً) - حسن مقلد (رئيس تحرير مجلة الاعمار والاقتصاد) - خالد لطفي (محام) - رمزي هيكل (محام) - ريمون معلوف (مهندس) - سعود المولى (عضو اللجنة الوطنية للحوار الاسلامي-المسيحي) - فارس سعيد (طبيب) - سليم سلهب (طبيب) - سمير سركيس (مهندس) - سمير عبد الملك (محام) - سمير فرنجيه (منسق المؤتمر الدائم للحوار اللبناني) - سيمون كرم (سفير سابق) - شكيب قرطباوي (نقيب المحامين سابقاً) - شوقي داغر (محام) - فريد الخازن (استاذ في الجامعة الاميركية) - فؤاد السعد (نائب سابق) - قيصر ابي اللمع (مهندس) - الاب كميل زيدان (أمين عام المدارس الكاثوليكية) - محمد حسين شمس الدين (باحث) - محمد فريد مطر (محام) - مياد حيدر (محام) - ميشال يوسف الخوري (محام) - نديم غسطين (طبيب) - السيد هاني فحص - هشام الحسيني (طبيب)