قانون الإنتخاب المقترَح من اللقاء الأرثوذكسي

وثائق لبنانية
29 تشرين الثاني 2011

أبعاد واقعية تاريخية ومستقبلية

بقلم البروفسور نجيب جهشان

 

تقدّمَ اللقاءُ الأرثوذكسي (وهو تجمعٌ حديث النشأة يضمُ سياسيين مخضرمين وشخصيات اجتماعية ومهنية مرموقة، والعديدَ من المواطنين الغيارى على مصلحةِ كنيستِهم وطائفتِهم) بمشروع قانونٍ إنتخابي جريءٍ مبني على مبدأ النسبية في التمثيل النيابي على صعيد لبنان كدائرةٍ إنتخابيةٍ واحدة، وعلى حقِ كل طائفة من الطوائف اللبنانية في اختيار ممثليها دون تأثيرٍ عددي مباشر من الطوائف الأخرى.
من الواجب بدءاُ الإشادةُ بجرأة اللقاء الأرثوذكسي في طرح هذا المشروع الذي يعترفُ لكل طائفةٍ بحقها في اختيار ممثليها، ويسمحُ لكافة القوى السياسية اللبنانية أياً كان اتجاهُها، بأن تتمثلَ نسبياً ودون إجحافٍ حسب أعداد مؤيديها في الندوة البرلمانية. إن اللقاءَ الأرثوذكسي لم يخفْ من اتهامه بالطائفية والإنعزالية أو من وصفِه بالتجمع المعادي للعلمانية والمجتمع المدني، ذلك أن مشروعَه، كما سنشير لاحقاً، هو بالفعل الطرحُ الأكثرُ تقدميةً بين سائر القوانين الانتخابية المطروحة للبحث، ينقلبُ على رياء الأنظمة الانتخابية التي عُمِل بها منذ الاستقلال، وهو الأكثرُ واقعيةً يستجيب لحقائق المجتمعات المشرقية ، والأكثرُ ليبرالية يعطي كافة التيارات السياسية والعقائدية الموجودة في لبنان فرصَ الوصول إلى الندوة البرلمانية التمثيلية، والأكثرُ عدالة لأنه يتيحُ لكل مواطن أينما أقام ، أفي الوطن أم المهجر، أفي العاصمة أم في أي منطقةٍ نائيةٍ من الوطن ، فرصةً متكافئةً لاختيار النواب الذين يؤمنُ المواطنُ بصحة تمثيلِهم له.
قد يعودُ اهتمامُ اللقاء الأرثوذكسي بهذا الطرح إلى الإحباطِ والغيظِ اللذَين يعمّان الطائفة الرومية الأرثوذكسية في لبنان منذ عقودٍ بعيدةٍ والتي تشعرُ بأن معظمَ نوابها الأربعة عشر يَلِجون الندوة البرلمانية بأصواتِ ناخبين من الطوائف المسيحية والإسلامية الأخرى، تحملُهم محادلُ تقودها زعاماتٌ وأحزابٌ ليس لها النفوذُ الكبير أو الشعبيةُ العارمة في أوساط الطائفة الأرثوذكسية . فنواب الطائفة في عكار وطرابلس والمتن الشمالي وبيروت وعاليه وزحلة والبقاع الغربي ومرجعيون لا يمثلون بالضرورة اتجاهاتِ أبناء الطائفة في تلك المناطق، ويعملون غالباً داخلَ الندوة البرلمانية لمصلحةِ الأحزاب والكتل والتيارات التي أوصلَتْهم والتي لا تعنيها كثيراً حقوقُ الطائفة الرومية الأرثوذكسية في الدولة اللبنانية والمجتمع. وتصديقاً لهذا الواقع، خسرَت الطائفةُ العديدَ من المواقع الإدارية  والحصصَ في الدولة اللبنانية الحالية.
أن هذا الأمرَ، وإن كان جلياً وواضحاً كل الوضوح وشائعاً  في وضعية الطائفة الأرثوذكسية، لا يقتصرُ فحسب على هذه الطائفة، بل يشكّلُ أيضاً سبباً للإحباط والحرمان عند الطوائف المسيحية والإسلامية المتوسطة الحجم، وفي طليعتِها الطائفةُ الرومية الكاثوليكية والطائفتان الأرمنيتان والطائفة الدرزية والطائفة العلوية وكافةُ الأقليات. وبَدأ الداءُ ذاته يصيب الطائفةَ المارونية في العقود القليلة الأخيرة، وبالتحديد منذ التسعينات من القرن المنصرم، لسببِ انحسارها الديمغرافي وتقلصِ نفوذِها العددي في مناطق عدة كبعلبك والهرمل والبقاع الغربي وطرابلس وعكار وبعبدا وعاليه والشوف. كلُها مناطقُ لم يعدْ للموارنة فيها التأثيرُ الديمغرافي الكافي القادرُ على تقرير مصير انتخاباتها النيابية. وبشكل وطني إجمالي، يسودُ الاعتقادُ بأن أكثرَ من نصف نواب الأمة لا يُنتخبون من قِبل طوائفهم، بل يصلون إلى السدّة التمثيلية بمحادلَ تنتمي أو تُقاد من قِبل زعامات وأحزاب من طوائف أخرى.
في هذا الإطار، يأتي طرحُ اللقاء الأرثوذكسي الذي يقترحُ جعلَ لبنان دائرةً إنتخابية واحدة واختيارَ النواب من قِبل مواطني طائفتهم، حسبَ نظامٍ نسبيٍ يعطي كلَ حزب أو تكتلٍ أو تيّارٍ عدداً من المقاعد معادلٍ للنسبة التي حصل عليها بين المقترعين. فعلى سبيلِ المثال، وفي حال الطائفة الرومية الأرثوذكسية، إن تقدّمَ أربعةُ أحزابٍ بلوائحَ ترشيح مكتملة (أي تضم أربعة عشر مرشحاً) ونالت ما يلي من نسب المقترعين:
-الحزب أ : حوالي خمسين بالمئة
-الحزب ب : حوالي عشرين بالمئة
-الحزب ج : حوالي خمسة عشر بالمئة
-الحزب د : حوالي خمسة عشر بالمئة.

فالنتيجةُ تُفضي إلى توزيع المقاعد الأربعة عشر على الشكل التالي : سبعة للحزب أ ، ثلاثة للحزب ب ، إثنان للحزب ج  وأثنان للحزب د .
إن هذا المشروعَ المقترَحَ من قِبل اللقاء الأرثوذكسي يتحلّى بإيجابيات عديدة تؤهلُه لأن يصنّف بين أفضل المشاريع المقترَحة للتطبيق في لبنان. وسنبيّنُ فيما يلي بعضاً من هذه الأيجابيات ، معتمدين على سبيل المثال لا الحصر، المعطياتِ الخاصة بالطائفة الرومية الأرثوذكسية، مصرّين بأن ما يُقال في وضع هذه الطائفة ينطبقُ أيضاً ودون أدنى شكٍ على كافة الطوائف الدينية في لبنان.
الإيجابية الأولى : إن هذا المشروع يحترمُ احتراماً كاملاً الميثاقَ الوطني الذي بنى الاستقلالَ اللبناني ويطبقُ مبادئه، كما ويحترمُ اتفاقيةَ الطائف التي أنهتْ الحربَ اللبنانية. فالميثاقُ الوطني أنشأَ دولةً مركبةً تكاملت فيها الطوائفُ وتوزعتْ الأدوارَ، كلُ واحدة حسبَ حجمها الديمغرافي. واتفاقيةُ الطائف تبنّتْ المناصفةَ الكاملة بين المسيحيين والمسلمين وبالتالي التوزيعَ العادلَ بين الطوائف، ووزّعَت المناصبَ العليا رسمياً على الطوائف. فالنظامُ اللبناني يقوم إذن على التعايش بين الطوائف بشكلٍ أقربَ ما يكونُ إلى الفدرالية الديمغرافية لا الجغرافية حيث يُعترفُ لكل طائفةٍ بكيانٍ ذاتيٍ يتمتعُ بواجبات وحقوق. ومن هذه الحقوق، شرعية التمثيل الذاتي الحافظِ للكيان، والذي يتحققُ بالكلية في مشروع اللقاء الأرثوذكسي.
الإيجابية الثانية : إن واقعَ منطقة المشرق، منذ الفتحِ الإسلامي، قائمٌ على التعايشِ والمشاركةِ بين طوائفِ أهل الكتاب من يهوديةٍ ومسيحيةٍ وإسلامية، حيث يُعتبرُ المسيحيون واليهود، في العرفِ الإسلامي، أهلَ ذمة. . وللذمية، طبعاً، بنظرِ المسيحيين، وجهٌ سلبيٌ مجحفٌ، لكنه، في وجهِه الأيجابي ، يعني  اعترافاً بكيانٍ ذاتيٍ خاصٍ بكل طائفة. وبلغةِ العصر الحديث، يتمثلُ هذا الاعتراف بمنحِ كل طائفةٍ حقَّ تمثيلها الذاتي. وأتتْ تجربةُ الخلافة العثمانية، التي أوجدَت نظام الملّة، واعترفَت به بدءاً من معاهدةِ الصلح والتعايش بين السلطان محمد الفاتح والبطريرك المسكوني جناديوس في السنةِ التي تلتْ استشهادَ القسطنطينية، وصولاً إلى الاعترافِ القانوني الكاملِ بالمللِ غير الإسلامية في الدولة العثمانية، أتتْ هذه التجربةُ فرصةً متقدمةً وغيرَ مسبوقةٍ في الاعتراف بذاتية الطوائف. وكانَ هذا الواقعُ المتقدمُ فريداً في عصرٍ لم تعترف فيه أيُ دولة أوروبيةٍ بحقوقِ الأقليات. إن مشروعَ اللقاء الأرثوذكسي هذا، والذي يعادلُ بين الطوائف الإسلامية والمسيحية في هذا الحقّ، خيرُ شاهدٍ على واقعية هذا النظام في المشرق ذي الأغلبية الإسلامية.
الإيجابية الثالثة: وهي قائمةٌ على اعتبارِ لبنانَ دائرةً واحدةً لكلِ طائفة من طوائفه، تتحققُ فيها نِسبُ التمثيل شرعياً على نطاقِ الوطن كلِه، معيدةً في ذلك حقّ الاختيار الحر والتمثيلَ الصادقَ والصحيحَ لكافة المواطنين. فالطوائفُ التي تتجمّعُ بكثافةٍ في بعض المدن والمناطق (كالسنّة في بعض المدن الساحلية، والشيعةِ في بعلبك والأقضية الجنوبية، والموارنةِ في الأقضية الجبلية) تحظى بتمثيلٍ صحيحٍ في النظام الحالي بسببِ كثافة مقترعيها. أما أبناءُ الطائفة الأرثوذكسية المنتشرون في كل أصقاع لبنان،  والذين يشكونَ من افتقادِهم التمثيلَ في الندوة البرلمانية (كمواطني أقضية زغرتا والبترون وجبيل والمتن الجنوبي والشوف والبقاع الغربي والشمالي إلخ...) يستعيدون، عبر هذا المشروع، حقَّهم في الاختيار وحقَّهم في الترشّح. إن الرومَ الأرثوذكس الذين يتواجدون على كلِ مساحة الوطن،  شأنُهم في ذلك شأنُ إخوانِهم الروم الكاثوليك، هم أهلُ الأرض الأولون (منذ الدولة الرومانية الشرقية التي ينتسبون إليها بالكِنية ، وقبلَ الانفصال النسطوري الذي أفرز الطائفة الأشورية ورديفتها الكلدانية، وقبلَ الخلاف الخلقيدوني الذي أوجدَ الطائفة السريانية والطائفة الأرمنية ، وقبلَ تجربةِ استعادةِ الوحدة بعقيدةِ المشيئة الواحدة التي لم يبقَ منها سوى الطائفة المارونية ، وقبلَ الدعوة المحمدية التي أتت بالإسلام ديناً ودولة، وقبلَ الإرساليات الغربية التي أضافَت تفتيتاً إلى التفتيت). وأهلُ الأرضِ الأولون يستحقون بأن يُمثّلوا جميعاً وبعدلٍ أينما أقاموا في لبنان بنوابٍ من ملّتهم في اقتراعٍ شاملٍ للوطن كلِه كدائرة واحدة.
الإيجابية الرابعة: وهي التي تسمحُ بكل تأكيدٍ للمغتربين اللبنانيين أينما وُجدوا بأن يقترعوا للبرلمان، شأنهم في ذلك شأن المقيمين في الوطن. إن أيَ نظام انتخابي يجزءُ لبنان إلى دوائرَ صغيرةٍ أم متوسطةٍ لا يفِ ، إلا بصعوبةٍ عالية ، بهذا الهدف لأنه من المستحيلِ أن يختارَ المغتربُ ، الذي مضَت أحياناً على وجودِه في الخارج عدةُ أجيالٍ ، نائباً في منطقةٍ جغرافيةٍ محدودةٍ لم تعدْ تربطُه بها شؤونٌها اليومية. أما مشروعُ اللقاء ألأرثوذكسي فيعيدُ لذلك المغترب دورَه الحقيقي على صعيد الوطن بشموليتِه ويُشعلُ فيه الرغبةَ في الإنتماء إلى قومِه عبر طائفته. يعرف الجميعُ ويشهدُ بأن العاملَ الطائفي بقيَ، في الاغتراب وإلى اليوم، الأساسَ في جمع شمل المغتربين من بلادِ الشام فيما بينهم، وتعزيزِ علاقاتهم بالوطن الأم.
الإيجابية الخامسة: يتيحُ هذا المشروع لكافة الأحزاب والعقائد السياسية والإيديولوجيات أن تتنافسَ صحيّاً فيما بينها وأن تصلَ بقدرتِها الذاتية إلى الندوة البرلمانية. ستكونُ لكل حزبٍ أو تكتل أو تجمعٍ عقائدي الفرصةُ في أن يرشّحَ لائحةً كاملةً لإنتخاباتِ كل طائفة من طوائف لبنان. وعند الروم الأرثوذكس مثلاً، سيكونُ بإستطاعةِ كافة الأحزاب، ومنها أحزابُ اليمين واليسار، والأحزابُ العلمانية، ولما لا حزب الله والأحزاب الإسلامية أيضاً، أن تتقدّمَ بلوائحها. فإن كانت لهذه الأحزاب نسبٌ شعبيةٌ مميزةٌ في هذه الطائفة ، فازَت بعددٍ من المقاعد النيابية وأدخلَت، من حصةِ هذه الطائفة، نواباً إلى البرلمان. وبعدذاك ، يَجمعُ كل حزب مقاعدَه التي حصلَ عليها في سائر الطوائف وينشىءُ في المجلس النيابي كتلةً عابرةً للطوائف تمثّلُ توجهاتِه السياسيةَ ومقاصدَه.
الإيجابية السادسة: يريحُ هذا المشروعُ، عند تنفيذه، كلَّ الطوائف التي تشكو اليوم من رياءِ النظام الحالي حيث تسعى كلُّ طائفة أن تقضُمَ مقاعدَ الطوائف الأخرى باسم التعايش والمشاركة والانصهار. إن إراحةَ الطوائف اللبنانية من هذا الخوفِ وهذا الحذرِ المتبادلَين سينقلُ لبنانَ لاحقاَ إلى أجواءَ صافيةٍ من الشفافية وعدمِ التشنّج تسمحُ بإنشاءِ مجالسَ تمثيليةٍ محليةٍ ومناطقيةٍ غيرِ طائفية تولي الشؤونَ الاجتماعيةَ والاقتصادية والثقافية والتنموية فائقَ اهتمامها. يحقِقُ ولوجُ هذه الأجواء النهضةَ اللبنانيةَ الصحيحة والمرجوةَ ويتيحُ فرصاً جديدةً للّامركزية الإدارية والتنموية.
هذه بعضٌ من إيجابيات هذا المشروع الذي تجرأَ اللقاءُ الأرثوذكسي بعرضِه، ولو دونَ تفصيلٍ إلى اليوم، على القيادات والقوى السياسية والاجتماعية في لبنان، ضارباً عرضَ الحائطِ باحتمالِ ظهورِ انتقاداتٍ ممن طغَتْ عليهم المصالحُ الشخصيةُ والمناطقيةُ الضيقة.  سيشكِلُ هذا المشروعُ إن شاءَت العنايةُ الإلهية وصدقَتْ نيّاتُ اللبنانيين، تحولاً أساسياً نحو الديمقراطية الشفافةِ وصحةِ التمثيل، وسيكونُ بلا ريبٍ مثالاَ يُحتذى في هذه المنطقة المشرقية من العالم، التي تشكو إلى اليوم من عدمِ الإستقرار والنزاعاتِ الدينية والعرقية، والتي تحتاجُ إلى أنظمةٍ سياسيةٍ غيرِ مستوردةٍ، نابعةٍ من واقعها التاريخي الثري.
قد يأتي يومٌ تفرِض فيه المصالحُ الاقتصاديةُ والمعيشية والثقافية بأن ينشأَ في هذا المشرق المميّزِ بتركيبتِه الدينية وتاريخِه الشائك،  فضاءٌ جديدٌEspace  كالفضاءِ الأوروبي يجمعُ أهلَه في  كيانٍ مركبٍ من كياناتٍ ذاتية لا تحققُ ذاتَها إلا بالتمثيل الصحيح. فتواجدُ الطوائف إياها في كل أقطارِ هذا الفضاء الجديد والمميّز، من تركيا شمالاً إلى سيناء جنوباً، ومن قبرص غرباً إلى بلاد ما بين النهرين شرقاً، قد يفرضُ حلاً مماثلاً لمشروعِ اللقاء الأرثوذكسي المطروحِ في لبنان. إن فضاءَ المشرقِ الإنطاكي (ليس بمعناه المسيحي فحسبْ بل ببُعدِه الحضاري والإقتصادي  والسياسي أيضاً) يفرضُ ذاته تدريجياً، وهو لناظرِه قريب، لأن التطورَ الإنساني المتسارعَ ينحى باتجاه الكياناتِ الواسعة.