النداء الثالث للمطارنة الموارنة

وثائق روحية
5 أيلول 2002

الخميس 5 أيلول 2002

"نداء ثالث" في أيلول ثالث سجّل مزيداً من الهواجس

مجلس المطارنة: المحاولات الصادقة مع سوريا لم تأت بفائدة وأوصلت أصحابها الى اليأس

والقضاء بات مسيَّساً وانتقائياً والمخيمات مرتعاً للخارجين على القانون

 

الديمان - "النهار":

النداء الثالث في ايلول ثالث، اطلقه امس مجلس المطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير في الديمان.

وعرض النداء "ما استجد عندنا"، مسجلاً مزيداً من الهواجس والمخاوف بدءاً من الاستعداد الاميركي لشن هجوم على العراق و"ما قد يستتبعه من تغيير لخريطة المنطقة السياسية، قد يتمثل بتقليص مساحة دولة لمصلحة قيام دويلات". وتطرق الى مصير الشعب الفلسطيني وما يصيبه ويقع في صفوف من ضحايا يومياً، ولاحظ ان لبنان "لم يتمكن حتى اليوم، لألف سبب وسبب، من السيطرة على ما فيه من مخيمات فلسطينية اصبحت مرتعاً للخارجين على القانون".

وفي الشأن الداخلي، لفت النداء الى ان كل فئة او حزب او جماعة ولا سيما منها المسيحيين انقسمت على ذاتها فأصبحت اثنتين، مشيراً الى ان "اشدها تمسكاً بمبادئها وتشبثاً بعقائدها وتصلباً بمبادئها، اذا بها تنتقل الى الجهة المقابلة". وتحدث عن مبدأ "فرق تسد" وعن التهديد الذي يجبر الناس على تغيير مواقفهم.

وتطرق النداء الى الفساد في الادارة والرشاوى وتحوير القوانين" ارضاء لأصحاب النفوذ" وتلزيم المشاريع من دون المرور بالمناقصات، ولاحظ" ان ما من مشروع يُلزّم ان لم يذهب قسم لا يستهان به من مال كلفته الى جيب هذا او ذاك من اصحاب النفوذ من لبنانيين وغير لبنانيين"، وان القضاء اصبح مسيساً وانتقائياً". وتوقف عند عدم محاسبة النواب "لأن الشعب غير مدين له"، لافتاً الى ما قاله احد المرشحين للناخبين "سواء انتخبتموني ام لم تنتخبوني، فأنا سأكون نائباً عنكم".

وفي الموضوع السوري، كرر النداء:"اخترنا مقتنعين ان نوثق امتن علاقات الاخوة والمودة مع الشقيقة سوريا (...) ولكن من حقنا ان نرتب شؤون بيتنا بنفوسنا"، وتحدث عن "رجال لبنانيين محنكين مخلصين" قاموا بمبادرات "لم تأتِ بفائدة بعدما ادركهم اليأس من النجاح". وجدد مطالبته بتصويب العلاقات بين البلدين، منبهاً الى ان المصيبة اذا وقعت، فلن تقع على لبنان وحده بل ستصيب جارته الأعز عليه سوريا".

اصدر مجلس المطارنة نداء ثالثاً (4 أيلول 2002) بعد نداءين، اول (20 ايلول 2000) وثانٍ (15 ايلول 2001)، وتلاه امين سر البطريركية المونسنيور يوسف طوق، وهنا نصه:

 

"نداء ثالث

في الرابع من ايلول 2002 عقد اصحاب السيادة المطارنة الموارنة اجتماعهم الشهري في المقر البطريركي في الديمان، وتباحثوا في شؤون كنسية، وفي الاوضاع الوطنية الراهنة. وفي نهاية الاجتماع، اطلقوا النداء الثالث الآتي:

بعدما اطلقنا نداءينا، الاول والثاني، في السنتين الفائتتين، في مثل هذا الموعد من كل سنة، رأينا ان نتبعهما بهذا النداء الثالث لنعرض فيه ما استجد عندنا، خلال السنة الماضية، من احوال على الصعيد الاقليمي والمحلي، بغية انعاش الامل في النفوس بغد افضل، رغم اللوحة القائمة التي رسمتها الاحداث المتتالية على الساحة الاقليمية واللبنانية.

 

هواجس ومخاوف

منذ فترة، راحت وسائل الاعلام تحمل انباء مقلقة عن منطقة الشرق الاوسط، مؤداها ان الولايات المتحدة تستعد لشن هجوم صاعق على العراق لتبديل السلطة الحاكمة فيه. وهو هجوم ستكون له عواقب وخيمة على الشعب العراقي، وما سيقع في صفوفه من قتلى، ويناله من خراب، وعلى معظم بلدان المنطقة، وبخاصة ان هذه البلدان ابدت عدم موافقتها على هذا الهجوم، لما سيجره عليها من اثقال ومتاعب وويلات سيتسبب بها لها جماهير النازحين من العراق، هرباً من جحيم الحرب. وهذا وحده كاف لحملها على مواجهة ما سيكون، بحذر كبير، فضلاً عن مضاعفات الحرب في ذاتها، وما قد يستتبعها من ادخال تغيير على خريطة المنطقة السياسية، قد يتمثل بتقليص مساحة دول، لمصلحة قيام دويلات.

وليس من يجهل ان هناك من يقول منذ زمن "باسقاط كل ترتيبات ومفاعيل اتفاق سايكس - بيكو الذي قسّم المشرق العربي الى كيانات سياسية تفصل بينها حدود مصطنعة". ولبنان هو المعني بهذا القول في الدرجة الاولى، وفاتهم  ان الكيان اللبناني هو اقدم وأعرق كيان في المنطقة، وقد احتفظ بما يتميز به من خصائص، رغم ما توالى عليه من جيوش، وطرأ على حدوده من مد وجزر.

وما القول عن مصير الشعب الفلسطيني وما يصيبه من ويلات ويقع في صفوفه من ضحايا يومياً. فيجب ان يهتدي المجتمع الدولي الى وضع حد لمأساته، وأن يكون له حق في تقرير مصيره بانشاء دولة له.

واذا كانت هذه حال دول المنطقة، فكيف بلبنان الذي لا يزال يعاني، في ما يعاني، من الوجود الفلسطيني فيه منذ اكثر من نصف قرن. وهو لم يتمكن حتى اليوم، لألف سبب وسبب، من السيطرة على ما فيه من مخيمات فلسطينية، اسوة بالبلدان العربية. ولقد اصبحت مرتعاً للخارجين على القانون، يلجأون اليها لعلمهم انهم سيكونون فيها في مأمن من كل ملاحقة. وهذا ما يلحق بسيادة لبنان والقضاء فيه ضرراً كبيراً.

والمذهل امام هذه الاخطار الكبيرة، ان اللبنانيين غارقون في خلافاتهم الصغيرة التي تدل على انهم غافلون عن امرهم، غير واعين لما يتهددهم من مصير قاتم.

 

فرّق تسد

ان كل فئة او حزب او جماعة، ولا سيما من المسيحيين، انقسمت على ذاتها، فأصبحت اثنتين، والامثلة كثيرة. ومن بينهم من كانوا الى هذه الجهة، وأشدها تمسكاً بمبادئها، وتشبثاً بعقائدها، وتصلباً بمطالبها، فاذا بها تنتقل الى الجهة المقابلة،  وتبدي هنا ما كانت تبديه هناك من تمسك وتشبث وتصلب. وكثيرون هم الذين يتساءلون، لا بل يطرحون علينا السؤال: الى هذا الحد بلغ من بعض المسيحيين الوهن والضعف لينتقلوا من جهة الى الجهة المقابلة بمثل هذه السرعة؟ لا نريد ان نضيع في انتحال الاعذار، لكن هناك امراً راهناً، وهو ان الولاء للوطن ضعيف، والمصلحة الخاصة تتقدم على الخير العام. ومتى بلغ الضغط عليهم مبلغاً اصبحت معه حياتهم، وقوتهم اليومي، وقوت عيالهم في خطر، فيضطرون الى التخلي عن مبادئهم. ومتى امّلوهم بالوظائف، وأغروهم بالفوائد المعنوية والمادية، فلا بد للضعفاء من ان يضعفوا امام الاغراءات. فكيف اذا داولوا لهم بين اللين والشدة، وكالوا لهم الوعود، ولاحقوهم بالوعيد؟ وقديماً قيل: "فرق تسد". ولا يزال هذا المبدأ ساري المفعول. وهو لا يزال يفعل فعله في المسيحيين وغير المسيحيين، وكذلك اسلوب الوعود والوعيد. ولا بد من التلبية الى ان حال الانقسام هذه قد تؤدي الى مزيد من شرذمة الصفوف والتلهي بالمشاكل الداخلية الفئوية، وتناسي القضايا الوطنية المصيرية.

 

وعود ووعيد

هذا هو المبدأ الثاني الذي تسبب بالفساد المستشري في كل قطاعات الدولة، ابتداء من الادارة، مروراً بالمال العام، انتهاء بالقضاء.

الادارة: لقد نشرت الصحف اخيراً تقرير التفتيش المركزي الذي عدد المخالفات التي ترتكبها الادارة والقيّمون عليها ابتداء من الوزير الى آخر درجات السلّم. وأبان كم هناك من موظفين غير اكفّاء يتقاضون راتباً ولا يأتون عملاً، وهم محميّون، لا يجرؤ احد على مساءلتهم. وكم من بينهم من عليهم احكام قضائية، لاتيانهم اعمالاً شائنة، وكم من معاملات خرج فيها اصحابها على القانون، وتمت بناء على تأكيد الوزير بوجوب اجرائها، رغم انف القانون، ناهيكم عن احاديث الرشاوى، وتحوير القوانين ارضاء لأصحاب النفوذ. وهذا قليل من كثير. وكم هم الموظفون الذين يجدون من نفوسهم الجرأة لرفض طلب غير محق، اذا جاءهم ممن يعرفون انه من اصحاب الحول والطول من المقررين، وأنه: اذا قال فعل؟

المال العام: ان تلزيم المشاريع من دون المرور بمصلحة المناقصات اصبح حديث الخاصة والعامة. وهناك من يؤكد انه ما من مشروع يلزّم ان لم يذهب قسم لا يستهان به من مال كلفته الى جيب هذا او ذاك من اصحاب النفوذ من لبنانيين وغير لبنانين. فضلاً عن تضخيم الكلفة، عن قصد وتصميم، ليتضاعف نصيب المستفيدين المنتفعين من المال العام. وما القول عن تعاونيات وهمية ذهبت اموالها الى من اوجدوها على الورق دون الارض؟ ومن يعرف ما هو وضع الصناديق المستقلة؟ وكم من تعويضات ذهبت الى مهجرين عن بيوت لم يحتلّوها، فيما بعض من خربت بيوتهم لم تصلهم اي مساعدة؟

وكيف نصف وضع لبنانيي الشريط الحدودي الذين ألجأتهم الظروف المأسوية الى الذهاب حيث لم يكونوا يريدون، ثم عاد قسم منهم، بناء على وعود، فدخلوا السجن، ونفذوا ما حكم عليهم به، وخرجوا فاذا هم دون عمل ولا مساعدة، وعيالهم تتضور جوعاً. ويستنجدون ولا من ينجد. وما زال بعضهم مهجراً، يتوق الى العودة في اقرب وقت ممكن. ولا نريد ان نتوقف على ما قيل وما لا يزال يقال عن الخصخصة وما يرافقها من اهدار. فأين العجب والحال هذه، اذا كانت الديون قد تراكمت علينا، فتجاوزت الثلاثين ملياراً من الدولارات الاميركية؟ واذا استشرت البطالة بين الناس، واذا هاجر، بكثافة، الشبان من حملة الشهادات الجامعية العليا الى حيث يجدون عمل لهم وهيهات ان يعودوا.

القضاء: انه لمؤسف حقاً ان يفقد القضاء ثقة المواطنين به. قيل ان احدهم سأل تشرشل، إبان الحرب العالمية الثانية، عن وضع الامبراطورية البريطانية، فأجاب: "ما دام القضاء عندنا بخير، فنحن بخير". ليتنا نستطيع ان نقول هذا القول في لبنان. وقد اصبح القضاء عندنا مسيّساً وانتقائياً. وهذه فكرة اصبحت راسخة في اذهان معظم الناس. فكم من حق انقلب باطلاً، ومن باطل انقلب حقاً. وكم من شباب لوحقوا وحوكموا لقول قالوه، وموقف سياسي اتخذوه، ومظاهر بريئة قاموا بها؟ ويؤسفنا ان نقول ان العدالة غالباً ما اصبحت مسخّرة لتحقيق اغراض النافذين السياسية. هذا ما يؤكده على الاقل معظم الناس، وعدد غير يسير من المحامين. اما المجرمون الكبار فلا يزالون مجهّلين.

 

ضياع المسؤولية

تقوم الديموقراطية على المحاسبة، ولكن من يحاسب من في لبنان؟ فالشعب يتعذر عليه محاسبة النواب، لأنهم ليسوا مدينين له، في معظمهم، بما يحتلونه من مقاعد نيابية، وما دام احد المرشحين يقول للناخبين: سواء انتخبتموني ام لم تنتخبوني، فأنا سأكون نائباً عنكم. وكل الناس يعرفون كيف يصبح بعض النواب نواباً في لبنان. ولكل شيء ثمن يدفع للنافذين المعروفين. ومن باستطاعته ان يحاسب الوزراء، ولو تعمدوا الخروج على القانون، ما داموا مديونين بحقيبتهم الوزارية، لا لشعبيتهم الكاسحة، باستثناء اقلية من بينهم، بل لمن عيّنهم في مقاعدهم الوزارية. ومن في استطاعته ان يحاسب الموظفين ما داموا ينعمون بالحصانة التي لا تأتيهم من المؤسسة، بل ممن يبسط عليهم ظل حمايته من المقتدرين. فهل من عجب اذا ما اختلت الحياة السياسية وتعطلت المؤسسات، وضاعت المسؤوليات؟

امام هذا الواقع الاليم، نسمع الكثيرين يقولون: ما الفائدة من الصراخ؟ نحن في وضع ارادته لنا الارادة الدولية ولاقليمية المفروضة علينا. ولا حيلة لنا غير التسليم بما كتب لنا. ونحن نقول: هذا قول فيه الكثير من التخاذل، والجبن، والاستقالة من المسؤولية. والله خلقنا ذوي بصيرة نيّرة، وارادة مصممة، ونطق سليم. وهناك مواثيق واتفاقات وقرارات دولية نطالب بتنفيذها. ونؤمن بالأخوة الصادقة، والتعاون الحر، والمساواة، والمعاملة بالمثل.

ولا يسعنا الا ان نثني على كل مبادرة توفيقية من شأنها ان تؤول الى مصالحة وطنية شاملة، تبقى شرطاً اساسياً من شروط النهوض بالوطن الى ما يريده له كل ابنائه من ازدهار، وما يتوق اليه من استقلال وكرامة.

ولنقل بصراحة: اننا اخترنا مقتنعين ان نوثق امتن علاقات الاخوة والمودة مع الشقيقة سوريا، بالاعتماد على ارادة اللبنانيين الموحدة، وذلك بعيداً عن اي استقواء بقريب او بعيد. ومعلوم ان المودة كالدين، لا اكراه فيها. وفي ذلك مصلحة مشتركة. ولكن من حقنا ان نرتب شؤون بيتنا بنفوسنا. وهذا من شأن الاخوة الصحيحة. ولذلك قامت محاولات صادقة تولاها، غير مرة، رجال لبنانيون محنكون مخلصون، طوال اشهر، ولم تأت بفائدة، بعدما ادركهم اليأس من النجاح من جراء المماطلات والابهام والهروب وليس من يجهل ان هناك اناساً من البلدين يتضررون من تصحيح الوضع، ولكن من واجب الحكام العقلاء، القادرين، ان يضعوا حداً لهذه الحال المزرية. ولبنان يغرق يوماً بعد يوم في بحر الديون الباهظة، والقوى الحية فيه تهاجر، ربما الى غير رجعة، والمستقبل لا يبدو مشرقاً. لذلك، طالبنا ونطالب بتصحيح العلاقة بين لبنان وسوريا بتطبيق اتفاق الطائف والقرارات الدولية. اذا لو حصل ما نرجو الا يحصل، فلن تقع المصيبة على لبنان وحده، بل ستصيب جارته الاعز عليه سوريا، وهذا ما نسأل الله ان يجنبنا اياه لخير البلدين، وأن يجود علينا بغدٍ افضل".