النـــداء الخامس للمطـارنــة الموارنة

وثائق روحية
11 أيلول 2004

يوم الأربعاء، في الأول من أيلول 2004، عقد أصحاب السيادة المطارنة الموارنة إجتماعهم الشهري في الديمان، برئاسة صاحب الغبطة والنيافة الكردينال البطريرك مار نصرالله بطرس صفير الكلي الطوبى، وعرضوا الشؤون الكنسية والوطنية المحلية والإقليمية، وفي ختام الإجتماع، أصدروا النداء التالي: 

هذا هو نداؤنا الخامس الذي نناشد فيه أخواننا وأبناءنا اللبنانيين ألاّ يستسلموا لليأس والقلوط، على الرغم من كل الصعوبات التي تعترض سبيلهم، وتنغّص عليهم حياتهم اليومية، وتحملهم على الكفر بوطنهم. وأسباب الرجاء لا تزال كبيرة، على الرغم من كل المظاهر المربكة، والأعمال السلطوية المنفّرة، والممارسات الظالمة. وينبوع رجائنا إنما هو إيماننا بالله أولا"، وبعدالة قضيتنا ثانيا"، ووعي شعبنا وأمثولات تاريخنا ثالثا"، وبمثل من سبقنا على هذه الأرض من آباء وأجداد رابعا"، وقد إرتضوا شغف العيش والفقر، ليعيشوا أحرارا"، يأبون الضيم، ويضلّون بالكرامة، دون أن يطأطئوا إلهام  إلاّ لله وحده، تمجّد إسمه.

أولا" : أسباب اليأس كثيرة، لا نريد أن نذكر منها إلا بعضها :
1-    إنسداد الأفق في وجه الشباب اللبناني الذي يخرج من الجامعات مزوّدا"  أعلى الشهادات الجامعية، ويبحث عن عمل فلا يجده، فيططّر الكثيرون منهم إلى الهجرة، وبعضها لا تعقبه عودة، وهذا إفقار للوطن من أدمغته، ليحلَّ مكانها من يفد عليه ومن يفد من طارقين.
2-    الديون الباهظة التي تثقل كاهل المواطنين، وقد بلغت حدود الأربعين مليار دولار، وهي لا تزال تتنامى مع طلوع كل فجر. وكل المحاولات، التي تقوم بها الدولة للتخفيف من أعبائها، ترمي إلى رجائها وليس إلى إطفائها. والإنهيار لا يزال يهدد الوضع المالي بشهادة أرباب الخبرة في الشؤون المالية ومن بينهم من يعملون في المؤسسات المالية الدولية، وأحدهم يقول : " أن البنك الدولي أشار في تقرير له أصدره في تموز الفائت إلى أنّ دينامية الدين ستظهر آجلا" أم عاجلا" عجز الحكومة عن إدارة خدمته، وأن الإنهيار آت لا محالة في آخر النفق". والحكومة تُرهق الناس عبثا" بالضرائب، وتُماطل المستحقين من أفراد مؤسسات في الحصول على حقوقهم، إلا بعد طول مراجعات، وإنتظار سنوات.
3-    التجاذب القائم بين الجالسين على رأس الهرم في السلطة، وإنعكاسه على من هم دونهم فيها. وقد ظهر ذلك في سلوك بعض المسؤولين اللذين يحجمون عن تنفيذ مقررات مجلس الوزراء، ويكيلون الإنتقاد لممارسات رؤسائهم وأقرانهم، ويظلون حيث ما هم، كأن شيئا" لم يكن، وهذا أفقد أهل السلطة ما يجب أن يكون لهم في أذهان الشعب من مصداقية وإحترام، وهذا عائدٌ في بعضه إلى ما في إتفاق الطائف من نواقص وثغرات كانت تقضي بتطبيقه بحزافيره ليصار إلى إبرازها وإصلاحها، عندما تصفوا النيّات، وتصحُّ الإرادات على الخير. 
4-    إنتشار الخوّة في كل الدوائر الرسمية، وما من مواطن يجازف في طلب إنجاز معاملة إدارية، فنية كانت، أم عقارية، أم خدماتية، إلا ويلقى الأمرّين في مراجعات قد تطول أشهرا" وسنوات، وتبقى محجوزة في درج الموظّف، ولا يُفرَجُ عنها إلاّ بعد أن يتقاضى ما يُحسَب أنَّـه حقٌّ لـه، قبل حقّ الدولـة. هذا إذا كان في مكتبه ولم يكن متأخرا" عن ساعات عمله، أو هو في إجازة، أو في سفر. وقد ترامى إلينا أنَّ دوائر الأمن العام، خلافا" لما هو شائع عندنا، قد إعتمدت المراسلة، شأن البلدان الراقية في إنجاز المعاملات.
5-    إستشراء الفساد في صفوف بعض المسؤولين، ومن بينهم من يحتلّون مناصب عالية، الذين يُقاسمون الدولة على عائداتها فيثرون بطرق ملتوية، بين ليلة وضُحاها، ولا رقيب ولا حسيب، ويتلاعبون بالقوانين، ويستفيدون من جرم العارف، ويتجاهلون أنّ للناس أعينا تراقب، وألسنة تُشهّر، وقضية كازينو لبنان والكهرباء وبنك المدينة، ودوائر الجمارك وسواها، ماثلة للعيان.
6-    المحسوبية القاتلة التي تحشُرُ المحاسيب والأزلام في دوائر ووظائف لا كفاية لهم، ولا مؤهلات، ولا شهادات تمكنهم من القيام بموجباتها، ويكتفون من كل عمل يقومون به بالإقامة في منازلهم، وبالذهاب في آخر الشهر إلى صندوق المؤسسة الرسمية لتناول مرتّبهم الشهري. ويقول أحد المسؤولين مباشرة" عن قطاع الموظفين أنّ هناك ما لا يقلُّ عن تسعة آلاف موظف لا عمل لهم في الدولة ويتقاضون رواتب شهرية، ومن بينهم مدراء عامون.
7-    القضاء المُسيَّس يُرهق المواطنين ويمتهنهم ويُضيع عليهم حقوقهم ويُفسدُ النظام الديمقراطي، ويحول دون مجيء المغتربين وغير المغتربين للتوظيف في لبنان، وخلق فرص عمل، وهذا أمرٌ أصبح معروفا"، ويكفي أن يتوسط، ولو هاتفيا"، من له الكلمة العليا في الشأن اللبناني، وهو ليس بلبناني، ليأمر بإعتقال هذا والإفراج عن ذاك، وبتكوين ملف لهذا والإمتناع عن إعتقال ذاك، ولو إرتكب أشنع الجرائم. وقد أصبحت تهمة الإتصال بإسرائيل أهون التهم وأقربها منال، وبات القضاء موضع استخفاف لدى بعض كبار المسؤولين الذين يتجاهلونه، حتى ولو طُلب منهم المثول أمامه لأداء شهادة.
8-    ألإنماء المتوازن إقتصر على العاصمة بيروت، وأهملت المناطق فهُجّرَ أهلوها بلداتهم وقراهم إلى المدينة حيث يُصبحُ بعضهم نكرات يهدرون كراماتهم، ويتجرؤون على الإنغماس في الموبقات. والمطلوب تجهيز هذه البلدات والقرى بمدرسة ومستوصف ومصنع يؤمن لهم العمل في قراهم حيث تبلغ أكلاف العيش نصف ما تبلغه في المدن. وهذا سبب من أسباب إمتناع المهجّرين عن عودتهم إلى قُراهم. وهم يشكون حتى اليوم الحرمان من التعويضات المتوجبة لهم على الدولة، فيما بعض المحتلين يتعللون بالإحتلال لينالوا ما ليس لهم حق فيه من تعويضات في المدينة وضواحيها.
9-    الهدر الذي لا حدَّ له وخاصة عندما يتواطأ المسؤول الرسمي مع المتعهد على مال الدولة فيتقاسمانه، ولا يُنفق على المشروع قيد التنفيذ إلا جزء من المبلغ المرصود، فيما القسم الأكبر يذهب إلى جيب هذا أو ذاك. وغالبا" ما يتجاهل مكتب التلزيمات العامة، كما يتجاهل المجلس الإقتصادي، وحتى المجلس الدستوري فتقضي مدّة تعيين أعضاءه ويبقى بقوّة الإستمرار. وغالبا" ما لا يُؤخَذ برأي التفتيش المركزي، فيُصدر التقارير وتبقى حبرا" على ورق. فضلا" عن إختلاف الرواتب في بعض المؤسسات الر سمية ومنها ما يتقاضى من يعملون فيها عشرة أضعاف ما يتقاضاه سواهم في غيرها من المؤسسات الرسمية.
10-    الفقر المُنتشر في معظم طبقات الشعب الضئيل الدخل والمُثقل بالضرائب. ولجوء الكثيرين إلى طلب المساعدات لتأمين حاجاتهم الضرورية. وقد دلّت بعض الدراسات على أنّ  40 بالمئة من العائلات اللبنانية تعيش تحت مستوى خط الفقر. 
11-    الشكوى الأخيرة تتمحورُ حول الإستحقاق الرئاسي، وهي تعديل الدستور خلافا" للدستور وفرض هذا التعديل من خارج البلاد بخفّة، وتسخير المؤسسات الدستورية لإقراره، وإكراه الوزراء والنواب على إتخاذ مواقف لا يريدونها بقطع النظر عن الشخص. فيما يُطلب من النواب في القريب العاجل أن يبدوا رأيهم بحرية، واضعين أمام ضميرهم مُستقبل أولادهم دون مُبالات بما يلقون من تهديد ووعيد بدت طلائعهما منذ اليوم في بعض المجالات. والإنسياق مع التيار الجارف ما كان يوما" سبيلا" للخلاص. وإلتزام جانب الإقتناع بالحقيقة هو سبيل الخلاص. رَحمَ الله من قالَ : " الكُثرة دون الحق قلّة، والقلّة مع الحق كثرة".

ثانيا" : لمـاذا وصلنـا إلى هـذه الحـالـة  

وإن ما أوصلنا إلى هذه الحالة المُذرية إفساد النظام الديمقراطي الذي يتميّز به بلدنا، فالشعب لا يقوى على المجيء بمن يريده لتمثيله في المجلس النيابي، ولا يستطيع محاسبته أو مساءلته لذا أساء الأمانة. ومن جاهر برأي يُخالفُ الرأي الرسمي لوحق، وألقي القبض عليه، وناله ما يكره. والإنقسامات باعدت بين الصفوف، وهناك كم يعمل على أحداثها وتعميقها بالترغيب والترهيب. وكلما تقارب فريق إسلامي من فريق مسيحي، أو تلاقت جماعة مسيحية وجماعة إسلامية، جاء من يُفرّق بينهما بالتهديد والوعيد، وقد أصبح ذلك أمرا" مُشتهرا" ويمكن إيراد الأسماء الوقائع. وهذا ما يحول دون قيام مصالحة شاملة تُعيد الناس إلى بعضهم الى بعض، وتضعُ حدا" للمظالم التي لحقت ببعض اللبنانيين وفي مقدمهم الدكتور سمير جعجع والمنفيون والمعتقلون. لذلــك يشعر فريق من اللبنانيين، بعد مضي ست عشرة سنة على إتفاق الطائف، إنهم مهمّشون، وغير مرغوب فيهم في بلدهم. وكلما رفعوا الصوت بالمطالبة بما هو حقٌّ لهم من حرية، وإستقلال، وسيادة، تُهموا بالتمرّد، والعصيان، والثورة، وقوبلوا بالقمع، والملاحقة القانونية، التوقيف، والسجن. والذين دخلوه أخبروا عما وجدوا فيه من أنواع التعذيب والإذلال، وهي أساليب تخالف ما نصّت عليه القوانين، وشرعة حقوق الإنسان. وهذا نظام لا يتآلف والنظام الديموقراطي الذي يترك فسحة كبيرة من الحرية للمواطنين ، ويلزمهم تحت طائلة العقاب بالتقيد بالقوانين المرعية.

 ثالثا" :  من إلمسؤول ؟  

دخلت سوريا لبنان بجيشها منذ سنة 1976 أي منذ ثماني وعشرين سنة. ولا نريد أن نعود الى الماضي البعيد أو القريب. وكان هناك فريق من اللبنانيين عليها، فإنقلب معها، والعكسُ صحيح. وكان إتفاق الطائف الذي نصّ، فيما نصّ عليه، على خروج الجيش السوري من لبنان بعد مضي سنتين على توقيعه. وقد إنقضت على توقيعه ست عشرة سنة. ولا تزال الأمور على ما هي عليه، وإن طرء عليها بعض التغيير. وأصبح معلوما" أنّ الكلمة الأخيرة في لبنان ليست للبنانيين، بل للسوريين. مع أن لبنان بلد إعترفت الأمم المتحدة، بعد خروجه من الإنتداب الفرنسي، بإستقلاله وسيادته، الذين حصل عليهما قبل سوريا. وكانت هناك مصالح مشتركة تسببت بقطيعة في أول عهد الإستقلال، لعلّها كانت ترجع إلى الإدعاء الباطل بأنّ لبنان ما هو إلاّ إقليم سوري. هذا أصبح من التاريخ، ولا تُفيد العودة إليه.

ونقولها ببساطة، تُعتبَر سوريا أنها مسؤولة وحدها عن لبنان منذ دخولها إيـاه منذ سنة 1976 ، وخاصة بعد إتفاق الطائف، وكأنه إقليم سوري. وبالأمس نشرت إحدى الصحف السورية، في مجال الحديث عن الرئاسة الأولى في لبنان، فقالت إنَّ سوريا هي الناخب الأكبر إن لم يكُن الأوحد في لبنان، وكأنه قد خلا من مواطنين لهم رأيهم في ما يحدثُ في أمور تتعلّقُ بهم قبل غيرهم، وتحدد مصيرهم ومستقبل أولادهم. وهذا قولٌ دلّت عليه الأحداث الأخيرة، فتحولت اللبننة إلى سورنة صافية لا يُداخلُها أي رأي لبناني. وسوريا إذا كانت قد ساعدت لبنان في بعض المجالات. فقد أرهقته في مجالات أخرى، فهي تأمرُ وتنهي فيه، وتُعيّن الحكام، وتنظم الإنتخابات النيابية وغير النيابية، وتأتي بمن تشاء، وتُبعد من تشاء، وتتدخّل في جميع مرافق لبنان من إدارة، وقضاء، وإقتصاد، وخاصة سياسة، عبر ممثلها فيه ومعاونيه، تنتدبهم من مواطنيها، وبعض المواطنين اللبنانيين النافذين المغانم والمتاجرة بالنفوذ. وهكذا كثُرت الرشوات، وإنتشرت ثقافة الفساد، فيما الشعب اللبناني، ولاسيما الشباب من أبنائه، يُهاجر بأعداد كبيرة، ويزداد أبناؤه المقيمون فيه فقرا" يوما" بعد يوم، وبات لبنان يرزح تحت أثقال ديون باهظة، تهدده بالإنهيار، وإذا إنهار. فلن تسلم سوريا وهذا ما لا نريده للبنان ولا لسوريا.

ومعلومٌ أن سوريا عندما أقامت الوحدة مع مصر في عهد الرئيس عبد الناصر، رفضها الشعب السوري لأسباب معروفة لا تختلف كثيرا" عن الأسباب التي عددناها. لكننا لا نريد أن نُجاهرَ بالعداء لسوريا، ولا أن ننفي أية مسؤولية عن اللبنانيين بل نريد هنا أن نؤكد أننا لا نعتقد أن في لبنان من يضمر العداء لسوريا، وأن المصلحة المشتركة تقضي بأن تقوم بين البلدين أصدق علاقات الأخوّة والمودة. ومن حقّ الأخ على أخيه أن يحترم خصوصياته، فلا يتدخل في شؤونه الخاصة، ولا يعتبره قاصرا"، وأنّ له عليه حق الوصاية، بل أن يقوم بين الأخوين تنسيق، وتعاون مخلص على كل الأصعدة وهذا شعورٌ مشترك بين اللبنانيين من مسيحيين ومسلمين. ونتمنى أن يقوم في لبنان حكّام يجاهرون بهذه الحقيقة بوضوح للحكام في سوريا، لتستقيم العلاقات.

ولا نريد أن نصدّق أن سوريا تخشى النظام الديمقراطي في لبنان كما يحلوا لبعضهم أن يدّعي. فهي حرّة في إختيار نظامها، ولبنان حرٌّ في إختيار نظامه، وهذا لا يُفسد للودّ قضية. ولكن إذا ظلّت الأمور على ما هي عليه من الحذر والتوتر فلن يكون هناك راحةٌ للبلدين. وإنّ ما يسيء إلى لبنان يُسيء حتما" إلى سوريا، وسيكون لـه إنعكاساته السلبية على البلدين. ونحن لسنا طُلاب عداء، وخصام، ونزاع، بل طُلاب تعاون وأخوّة، ومودّة. فعسى أن يُحقّقَ الله الآمال.