هل كان شطح يدرك أنّه أوّل شهداء هواجسه؟

مقالات
28 كانون الأول 2013

جورج شاهين

لم يكن الوزير الشهيد محمد شطح على لائحة السياسيّين الأصدقاء أو ممّن أعرفهم معرفة شخصية واسعة. ولكن ما استشرتُه مرّة في ملفّ ماليّ أو سياسيّ أو ديبلوماسي إلّا وأدركتُ حجم معلوماته ووسعَ إدراكه في قراءة الأحداث الإقليمية والدولية. وفي آخر لقاء جمعني به قبل ساعات من استشهاده عبّر عن مخاوف جدّية من انتقال النيران السوريّة إلى لبنان، فهل كان يدرك أنّه سيكون أوّل شهداء هواجسه ومخاوفه؟
مساء أمس الأوّل الخميس كنتُ على موعد مع الشهيد شطح، أي قبل أقلّ من 15 ساعة على استشهاده. فقد كان ضيفاً عزيزاً على حلقة «مانشيت المساء» في إذاعة «صوت لبنان» لنقرأ وإيّاه ما حملته سنة 2013 من مستجدّات وتجارب على مستوى العالم العربي، من تونس وليبيا الى اليمن ومصر وصولاً إلى سوريا، فعبّر عن سعادته بالتحوّلات العربية القائمة منذ ظهور بشائر الربيع العربي في عالمٍ كانت تحكمه قبل أعوام قليلة ديكتاتوريات بلا ديموقراطية، فانتقل بعد انتفاضة شعوبه الى عالم الديموقراطية بلا نظام، معبّراً عن أمله في وصول هذه الشعوب قريباً إلى أنظمة ديموقراطية.
كان الشهيد واضحاً جداً عندما قال: «إنّ أربعة عناصر اساسية تعوق التحوّلات في شمال افريقيا والعالم العربي الى الديموقراطية الحقيقية، أوّلها عدم التمرّس على النظام الديموقراطي، وثانيها الإسلام السياسي الذي يعوق هذه العملية لصعوبة الفصل بين الدين والدولة، والفشل الذي أصاب مشروع الإسلاميّين في مصر من أبهى هذه الصور، وثالثها النزاع الفارسي ـ العربي أو الإيراني - الخليجي بنحو أوضح، وصولاً الى فقدان سيطرة الدول الكبرى على الشعوب التي خرجت الى الشوارع والساحات العربية تنادي بسقوط الأنظمة التي حكمتها لعقود. عبّر الشهيد سريعاً في قراءته السريعة لأحداث العالم العربي الممتدّة من العام 2011 حتى اليوم، وتوقّف امام محطات 2013، فكان يرغب التوقّف في المقابلة امام المحطة السورية وصولاً الى الملف اللبناني، لاقتناعه بما ينتظر لبنان من أحداث، وما يخطّط له من مشاريع فتنة، ولاقتناعه بأنّ الرئيس السوري بشّار الأسد الذي واجه ثورة شعبه بالصدور العارية في بداياتها، عرف كيف يحرفها الى مواجهة مع الإسلاميين والمتطرّفين، لما له من مصلحة في أن يكلّفه الغرب مهمّة القضاء عليهم ومواجهتهم، كذلك عرف كيف يستدرجهم الى هذه المواجهة العسكرية. مستذكراً ما قاله الرئيس السوري في بدايات المواجهة بأنّه سيذهب ومعه الشعب السوري وكلّ ما بناه هو ووالده في سوريا.
كان الشهيد حريصاً كلّ الحرص على قراءة التطوّرات العربية سريعاًَ، لتفضيله الغوص في الملفّ السوري، وهو الملف الأكثر اشتعالاً، والتجربة التي لم يعرفها العالم سابقاً. فعمّا شهدته سوريا وما زالت، قال: «إنّها تجربة لم يعرفها العالم العربي الى اليوم، فتونس المتمدّنة أصلاً عرفت نوعاً من الإستقرار بعد إسقاط نظام زين العابدين بن علي، والمجتمع التونسي مُطّلع أكثر ومنفتح، ما سهّل الانتقال من نظام الى آخر، لكنّ الوضع الليبي هو النقيض تماماً لعدم وجود أيّ نظام في البلاد قبل إسقاط معمّر القذافي، وليس سهلاً بناء دولة من الصفر».
وتوقّف شطح عند التجربة اليمنية، خصوصاً عند مظاهر شارعين جمع كلّ منهما ملايين البشر من دون أيّ مواجهة دموية. أمّا عن مصر، فقد توسّع في شرح الفشل الذي أصاب نظام الإسلاميين بقيادة محمد مرسي، لكنّه لفت الى «أنّ التجربة المصرية لم تنتهِ بعد، وهناك عامل أمنيّ وإرهابي يؤثّر على الأرض، وهذا وضع خطير، لأنّ الإرهاب يحاول ارتداء قميص ديني».
كان شطح يرغب بالوصول الى الملفّ السوري سريعاً ليعبّر عن قلقه المتمادي، والذي بلغ الذروة في الأيام الأخيرة، نتيجة التطوّرات على الساحة السورية. لافتاً الى «أنّ ما هو ثابت لديه «أنّ التجربة السورية صعبة وطويلة ومريرة، وقد نشهد أياماً أسوأ بكثير ممّا يجري على ارضها حتى اليوم، فالسعي الى «جنيف 2» لا يوحي بأنّ هناك حلّاً أو مجرّد خريطة طريق تؤدّي الى هذا الحلّ. فالنظام السوري الذي أتقن لغة التعبئة ضدّ العدوّ الصهيوني لعقود من الزمن تجاوزَ عقدة هذا العدوّ، إلى أن بات العدوّ في قلب البيت، فأعلنها حرباً على شعبه متّهماً إيّاه بأنّه تكفيري وإرهابي قبل ان تتكشّف الأدوار العسكرية للمعارضة ضدّ نظامه، وهي ما زالت تواجه جيشه بالصدور العارية، وعلى العالم ان يعاونها للقضاء عليه».
كان شطح مُصرّاً طوال فترة البرنامج على أنّ «من الضروري أن يتفهّم اللبنانيون مخاطر انتقال ما يجري في سوريا إلى لبنان»، متخوّفاً من «أن يكون ذلك بالسرعة التي لا يتوقّعها أحد»، فدعا إلى «ضرورة تحييد لبنان عمّا يجري هناك، وإقفال كلّ بوّابات العبور بين سوريا ولبنان في الإتجاهين أمام المقاتلين والسلاح، ولو بالتنسيق مع الأمم المتحدة وفق مندرجات القرار 1701 لننجو بلبنان من محنة أقسى من أيّ محنة أخرى عشناها».
وما بين فاصل وآخر من الحلقة كان شطح حريصاً على التأكيد «أنّ استمرار تورّط بعض اللبنانيين بعيداً في الأزمة السورية سيورّط لبنان في مواجهات عنيفة»، معبّراً عن مخاوفه الشديدة من «أن تعود ارض لبنان ساحة للمواجهة، في موازاة الساحة السوريّة». وهو مقتنع بأنّ «ما يريح الأسد في المواجهة المفتوحة مع شعبه - على رغم الحديث عن تورّط الإسلاميين والجهاديين من كلّ دول العالم في سوريا - أن يوسع بيكار المواجهة في لبنان ويحوّله ودولَ الجوار السوري ساحةً أخرى شبيهةً بساحة المواجهة على أرضه وصولاً للإشارة الى نجاح هذا الرجل في إدارة معركة النظام والمعارضة معاً في الوقت نفسه، فلديه من يوفّر له الخدمات على أطباق من ذهب في الطرفين معا».
و"الأخطر، قال شطح، إنّ لبنان يشكّل الحلقة الأضعف بين دول الجوار السوري، ذلك أنّه ورغم انسحاب القوّات السورية منه، فإنّ النظام السوري تمكّن من نقل ثقل النتائج المترتّبة من الأزمة الى أرضه، والمتمثّل بنزوح ثلث النازحين واللاجئين السوريّين والفلسطينيّين، فضلاً عمّا له من مناصرين وأدوات مستعدّة لأيّ عمل على الساحة اللبنانية، بعدما نجحت في إدارة جزء من معاركه الإعلامية والسياسية والحزبية والمالية والإقتصادية والأمنية، واستدراج العالم الى مواجهة مماثلة على أراضينا في موازاة المواجهة على أرضه». ولم يخفِ شطح «أنّ منسوب تخوّفه ارتفع بعد العملية التي استهدفت السفارة الإيرانية»، وخشيَ من «استخدام الساحة اللبنانية للردّ على هذه العملية في وقت قريب، خصوصاً بعدما ارتفعت لهجة الإتهامات والتهديدات المباشرة في اتّجاه أطراف ودول وأنظمة».
وفي نهاية الحلقة أبدى شطح سروره، لأنّ هناك رسالةً أراد نشرَها، وكان له ما أراد في هدوء، وكأنّه كان يوصي بها لنشرِها، إذ كان واضحاً جدّاً ويمتلك سيناريو كاملاً لتصوّره السياسي مقروناً بالتعابير المناسبة ولو باللغات الأجنبية والعربية معاً، وقد سُرَّ بنسبة الذين استمعوا إلى كلامه في الحلقة، خصوصاً أنّ هاتفه بدأ يرنّ فور إنتهائها، وكذلك هاتف «صوت لبنان».
وعندما حرصتُ على وداعه عند الباب الرئيسي لمقرّ الإذاعة، فوجئتُ بأنّه يتنقّل بسيّارة عادية غير مصفّحة، فتردّدت قبل أن أسأله همساً كيف تتجوّل في سيّارة كهذه؟ فقال: «الله وحده يحمي وقدرُنا أنّنا نعيش في لبنان، وقد سلّمنا أمرنا إلى الله!».
وعندما تواعدنا على التواصل قبل ظهر أمس لتقويم ردّات الفعل على المقابلة، واحتمال ان نتناول الغداء، لم أكن أدرك أنّ شطح لم يكن على عِلم بأنّه سيكون شخصيّاً من أولى ضحايا هواجسه ومخاوفه، فغادر قبل ظهر أمس شهيداً قبل أن نتواصل.